آراء

تؤدّبون الفاطر و تستريحون للهادم

نايلة السليني


هل أتاكم، أنتم يامن نصّبتم أنفسكم أولياء على الله وعلى هذا الدين، نبأ سورة الكافرون؟ سورة من أوائل ما نزل على محمّد، وتلخّص العقيدة الإسلامية في أرقى مظاهرها. هلاّ دعوتم أنفسكم إلى قراءتها

وقد تخففتم من أعباء المرويات التي أثقلتها؟ ألم تنتبهوا إلى النسق الدلالي فيها؟ وإلى العبارة النافذة في الصدور؟ لماذا أثقلت قلوبكم على آخر آية فيها"لكم دينكم ولي دين"؟ بل بماذا نفسّر هذا الحرص الغريب الطاغي على الإسلام المعاصر في فرض العقيدة على الناس فرضا؟ وهل من تعليل لهذا الخوف على مشاعر الصائم؟ إن كان الصائم مقتنعا فعلا أنّه على حقّ. لماذا تحوّل المسلم في هذا العصر إلى قاصر ينشد المساندة؟

لقد حوّلوا الإسلام يا سادتي إلى جلاّد جبّار، إسلام صُمّت آذانه وغُمّضت أعينه وملؤوا أفواهه حجرا. ومن أغرب ما نعيشه اليوم هو أن تتحوّل الدولة إلى جهاز رادع بل فارض لعقيدة، كأنّ للدولة دينا.

كلّ شيء في بلاد العرب يمشي إلى الوراء، الجميع يهرع سريعا إلى مغارة أهل الكهف، وقد امتلكه الهلع من الحداثة، حالة من الفوضى تهزّ الجميع، ولا أحد يدرك حقيقة ما يريد. جميعهم متفقون أنّ داعش هي الخطر الذي يقرع الطبول، ولكنّهم لا يعقلون أنّ كلّ واحد فيهم بما فيهم الوزير والمسؤول يحمل في كيانه بذرة داعشية، لقد دخلوا في منافسة مع الدواعش دون أن

يدركوا ذلك، يتنازعون هذا الدين الذي أخذوه رهينة يوظفونه في حملاتهم الانتخابية وفي سياسة أمور بلدانهم ،وأدخلوا الإسلام سوق المزايدات فضاع عبقه وذهبت ريحه ولم يبق منه سوى الجلباب والخيمة... لم نعد نرى من الإسلام سوى الفزع واللطم والعويل والعصا ، فإذا بدرّة عمر بعثت من تراب. وإذا بسيف خالد منتصب بيننا يفرّق الناس ويوزّع شهادات الإيمان والكفر.

هذا هو الإسلام السياسي، إسلام اعتبر نفسه افضل من يدافع عن العقيدة في عصر ، قالوا إنّ العقيدة قد تبخّرت فيه. وإن حدث لك ان تتريّث في فهم هذه الظاهرة الدينية، منذ بوادر نشأتها مع مؤسسات الحسبة في التاريخ الإسلامي، لتبيّن لك أنّها وليدة إيمان مهزوز. إيمان موروث لا يضمن صاحبه الدفاع عنه، لأنّه ببساطة لا يمتلك الآليات المعاصرة لحمايته، ولا يحمل سوى زاد متهافت من المرويات الموضوعة أخذها عن إمام يكرّرها مثله "مثل الحمار يحمل اسفارا". ولم يكلّف نفسه لحظة للوقوف عند متونها بالنظر والتحقيق والاستدلال. عقيدة هؤلاء صمّاء، ولأنّها كذلك فهي تخاف من المخالف، وترتعد من المستحدث، وتحتمي من كلّ دعوة إلى التجديد. إنهم في فزعهم يكتمون قلقا من أن ينزلوا عن عرش الافتاء وإمساك الناس من رقابهم.

فزعت الشرطة ، وهناك من شبّههم "بالشرطة الدينية" أي جماعة الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، وهرعت لطرد كلّ من أفطر في رمضان من المقاهي، بل تجاوزت سلطتها لأخذ هوية كلّ من عصى، ومن يدري قد تسهى الملائكة عن واحد منهم. وسؤالي إلى هذه الشرطة الموقرة: بالله عليكم هل أنقذتم الإسلام بهذا العمل من التلف والضياع؟ هل حميتموه بغلق المقاهي؟ وما هو قولكم فيمن أضمر اللاعقيدة؟ هل تمتلكون الوسائل حتى تقتحموا ضميره؟ ذكّروكم بالدستور باعتباره حاميا لحرية الضمير، وهذه قضية أخرى، إذ يطرح سؤالا هامّا يتمثّل في مدى استعداد وزارة الداخلية بالأساس ويأتي بعدها بقية الوزارات في تعريف الموظفين بمبادئ الدستور؟ أم إنّه دستور "وسادة" نضعه تحت رؤوسنا لنحلم بمستقبل أفضل.

الغريب أنّ هؤلاء تحوّلوا إلى ضمير هذا البلد، لكن والأغرب منه أنّه ضمير مصاب بالزهايمر يستفيق ليغيب عنّا متى قدّر له ذلك: إذ كيف نفسّر غيبوبته امام هتك مؤسسات الدولة الحديثة مع حزب التحرير ، وصمته أمام التجاوزات التي شاهدها الجميع، من إنكار لعلم البلاد واستبداله بعلم داعش، إلى إخفاء اللوحات المنجمية بالسيارات واستبدالها ، اقتداء بالدواعش ايضا، بلافتات

تعلن عن قدوم الخلافة. ماذا كان يمكن أن يكون سلوك أمننا لو قامت إحدى هذه السيارات بحادث قاتل ورقم السيارة مستبدل برقم الخلافة؟ لماذا لم نر هذا الجزع والتوعّد؟ حتى على الأقلّ نطمئنّ إلى هيبة دولتنا؟ أم إنّ هيبة الدولة هي رهينة جزر من أفطر في رمضان؟ انتصبت شرطتنا راعية للدين، ولكن غابت عنها وعن الذي امرها بذلك أشياء كثيرة أخرى، إذ قديكون هؤلاء

الذين "عصوا الله" يرفضون جنّة هؤلاء الذين يهلّلون بحماية الدين. غاب عنهم أنّ علاقة الإنسان بعقيدته هي شأن خاصّ كما ذكر الله تعالى ذلك، ولا أحد يمتلك القدرة على الرّدع، وهي لعمري مسألة في غاية التعقيد يربأ الإنسان العاقل بنفسه عن التدخّل فيها. فاتركوا الناس على مذاهبهم يرحمكم الله، ومن أقلقته رؤية إنسان يفطر في رمضان فما عليه سوى أن يراجع إيمانه

هو لا إيمان غيره، وأن يقتنع أنّ إيمانه هشّ قد يتزعزع فينفلت منه في كلّ لحظة. فإلى كلّ من يرى نفسه حامي حمى الدين أقول: لأنّ الله هوالكامل القادر والعالم لا يحتاج إليك حتى تذود عنه الأذى، لأنّه خالق الكون ولست أنت.