آراء

نوبل التونسية و"شيفرة" المجتمع المدني

يحتمل فوز الرباعي الراعي للحوار الوطني  بجائزة نوبل للسلام قراءات عدة. فهناك من يرى أنها رد اعتبار لانتفاضات الربيع العربي و"للاستثناء التونسي" من تعثر الانتقال إلى الديمقراطية في دول هذه الانتفاضات. وقد يجد تونسيون في الجائزة مداعبة ما لمشاعر وطنية تستحضر أن هذا البلد كان الأول الذي يسن دستوراً في العالمين العربي والإسلامي (عام 1861). بل إنه سبق الولايات المتحدة نفسها في إلغاء الرق (عام 1846).
إذا كان هناك تونسيون ليسوا راضين على نوبل هذه لأنها في ظنهم تتوج مساراً ل«توافق تآمري» بين نخب إسلامية وعلمانية، وسواء أكان هذا على حساب الثورة وأهدافها الاجتماعية أو ضد طبيعة الدولة البورقيبية، فإن هذا مؤشر على اختلاف وجهة نظر التونسيين تجاه الجائزة ومعناها.
وهكذا تحتمل «نوبل التونسية» أكثر من قراءة في سياقات عدة. لكننا في هذا المقال سنعود ونركز على المنظمات الأربع الفائزة بالجائزة كواجهة لمجتمع مدني ينمو ويلعب أدواراً لافتة بعد ما أطلق على ثورته «الياسمين» في 14 يناير 2011. ومهمتنا هنا هي فك «شيفرة» هذا المجتمع المدني وفهمه. ولا شك أن تونس ما قبل الرئيسين بورقيبة وبن علي عرفت جمعيات وهيئات وهياكل عاونت أهله على تصاريف الحياة. و«عدل الأشهاد» ما هو إلا عنوان لبقايا ما يمكن أن يوصف بسلطة خاصة اعتمدها عموم التونسيين كي تتولى توثيق كافة المعاملات من زواج وطلاق وحج وفض منازعات وبيع وشراء عقارات وكتابة التصرفات المالية، ومنذ عهد البايات وعميقاً حتى القرن السابع عشر. وعلاوة على ذلك فقد كان لكل مهنة «أمين» يتم اختياره بشكل جماعي شعبي ووفق سمات عملية «تشاركية» سبقت احتلال فرنسا للبلاد في 1881. وحتى في ظل الاحتلال لعبت جمعيات كجمعية قدماء الصادقية (تأسست عام 1905) دورها المقدر في الحفاظ على اللغة العربية والثقافة الوطنية. وما يعنينا أن التحديث البورقيبي فدكتاتورية بن علي أسفرت بوجه عام عن انحسار ليس فقط في عدد جمعيات المجتمع المدني، ولكن أيضاً في دورها في الشأن العام. كان عدد الجمعيات مع آخر إحصاء لسلطات الاحتلال عشية الاستقلال وتحديداً في عام 1954 نحو 14 ألف جمعية في بلد يتجاوز سكانه بالكاد الثلاثة ملايين نسمة. وعشية ثورة الياسمين انخفض عدد الجمعيات إلى أقل من عشرة آلاف في بلد يربو أهله على 11 مليوناً. وبمقتضى مرسوم بقانون بعيد إطاحة بن علي ألغي العديد من القيود على التأسيس والعمل أصبح في تونس نحو 17 ألف جمعية خلال ثلاث سنوات فقط. وهذا وفق تصريح مدير عام الوزارة الأولى المكلف بالجمعيات «سليم البريكي» لصحيفة «الصباح» التونسية في 24 مارس 2014. لكن النقلة النوعية الأهم تتمثل في الدور السياسي الذي بات العديد من منظمات المجتمع المدني العريقة والجديدة الوليدة تلعبه في حقل السياسة وفي التأثير في عملية الانتقال إلى الديمقراطية. وبشأن الجمعيات الوليدة يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى تجربتي جمعية «مراقبون» لمراقبة الانتخابات العامة، وكذا إلى جمعية «دستورنا». (وللتجربتين مساحة في كتاب لي قيد الطبع). وهذا التطور يدفع البرلمان التونسي إلى اعتماد خطاب «الديمقراطية التشاركية» وتخصيص فضاء داخله لهذه الجمعيات بدعوى المشاركة في عمليتي التشريع والرقابة، وأقول خطاب لأن الحكم على الممارسة ما زال بعيداً.
ومن يتابع مجريات السياسة في تونس على مدى عامين سابقين بإمكانه أن يلحظ الدور اللافت للمجتمع المدني، وبخاصة تلك الجمعيات الوليدة، وهذه التي أسسها يساريون، وبما تتوافر عليه من طاقة شبابية ونسائية. ولقد ظهر هذا الدور في أحداث فارقة كاعتصام ساحة «باردو» أمام البرلمان يوم 27 يوليو 2013 بعيد اغتيال النائب اليساري الناصري محمد البراهمي وإلى يناير 2014 للضغط جماهيرياً لإزاحة «الترويكا» وحزب النهضة الإسلامي عن الحكم والتعجيل بإصدار الدستور المتعثر وتحديد موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية. وبالقطع لا يمكن فهم نجاح وساطة المنظمات الأربع الكبرى والعتيقة الفائزة بنوبل في التوصل إلى «خريطة الطريق» من دون هذا الضغط الموازي والمسهل هذا.

صحيح أن الرابطة التونسية لحقوق الإنسان تشتهر بأنها الأقدم عربياً وإفريقياً (تأسست عام 1977). وصحيح أن الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين (عام 1958) الشهيرة بجمعية المحامين تحمل على أكتافها تاريخاً من السياسة. فقد أمدّ المحامون التونسيون الحركة الوطنية والسياسية بأسماء تجعل من هذه الفئة في مقدمة اللاعبين داخل هذا الحقل وفي بناء دولة الاستقلال. فبورقيبة والسبسي والشهيد صالح بن يوسف والشهيد شكري بلعيد ينتسبون وغيرهم من رموز الحياة السياسية إلى المحاماة. ولن نتوقف كثيراً عند الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (رجال أعمال) والذي يعود إلى عام 1947. وحيث يبدو ظاهرياً الأقل حضوراً في علاقته بالمجال السياسي من شركائه الثلاثة في الوساطة وفي «نوبل». لكن الاتحاد العام للشغل ليس فقط أقدم هذه المنظمات الأربع، نظراً لأنه تأسس عام 1946، فهو بحق أكثرها جماهيرية حيث ينخرط في عضويته نحو 800 ألف عامل وموظف، وتنتشر فروعه ومقاراته في مختلف أنحاء البلاد، ويتوافر على إمكانات تعبوية ولوجستية ومالية تجعله بحق منظمة منظمات المجتمع المدني. وفضلاً عن هذا وذاك فهو الذي بادر منفرداً بإطلاق الحوار الوطني لنزع فتيل الاحتراب الأهلي الذي هدد مسار الانتقال في تونس. وكان هذا تماماً بعد مضي عام واحد على انتخاب المجلس التأسيسي، أي في أكتوبر 2012. ومن الأخطاء الإعلامية الشائعة الزعم بأن هذا الحوار لم ينطلق إلا في صيف 2013 ولم يستمر إلا أربعة أشهر فقط. فقد بدأ قبلها واستمر لاحقاً وحتى أثناء إجراء الانتخابات نهاية عام 2014. وبدا وكأنه يلعب دور «شرطي الإطفاء» لمعالجة أزمة تلو أخرى رافقت الخروج بمسار الانتقال من عنق الزجاجة حتى مطلع العام الحالي.
لكل هذا وغيره يستحق الدور السياسي لاتحاد الشغل التفاتة خاصة، ولا يمكن الزعم بماض وردي وعلى خط مستقيم لهذه المنظمة النقابية العريقة في علاقتها بالسلطة بعد الاستقلال 1956. فتاريخ الاتحاد نفسه مزيج من مد وجزر في علاقة الاستتباع للحزب الحاكم ورئيس الدولة، وهو أمر لا نستثني منه مدة قيادة «الحبيب عاشور» في عقدي السبعينات والثمانينات، رغم ما اشتهر به من صدام مع الرئيس بورقيبة. وما يعنينا هنا أن أهم منظمات المجتمع المدني التونسي وأعرقها تلك عرفت وتعرف مشكلات هذا المجتمع بأسره في العلاقة بين السياسي والمدني، فضلاً عن مشكلات أخرى مزمنة تتعلق بالمسافة بين قواعد أكثر راديكالية وبين قيادة ليست على هذا الحال. وحتى في هذا العهد الجديد من تاريخها بعد 14 يناير 2011 فإن هذه المنظمة راوحت بين الخطأ والصواب، فانزلقت إلى المشاركة بوزراء في حكومة محمد الغنوشي فور فرار بن علي، وسرعان ما انسحبت تحت ضغط القواعد والشباب.
صحيح أن المنظمة التزمت لاحقاً بعدم الدفع بأي مرشحين باسمها في الانتخابات العامة 2011 و2014 أو إعلان تأييدها لمرشحين بعينهم، إلا أن حالة الفوران والسيولة الحزبية التي ما زالت تطبع الحياة السياسية في تونس ألقت على كاهل المجتمع المدني وفي مقدمته «اتحاد الشغل» بمهام وأدوار سياسية بامتياز. وهنا ثمة اتهامات من إسلاميين للاتحاد ولرباعية الحوار بالانحياز إلى التعبيرات السياسية العلمانية. وأيضا ثمة اتهامات من قطاعات باليسار التونسي بأن الاتحاد والرباعي إجمالاً لعبا في إطار خطة أوروبية -أمريكية سعت لميلاد نظام سياسي برأسين يمينيين: «النهضة» الإسلامي و«نداء تونس» العلماني، فضلاً عن تحقيق التوافق بينهما كما يتجسد في الحكومة الحالية وفي وفاق وتحالف الشيخين «السبسي» و«الغنوشي»، وبما يحمله هذا التوافق من انحيازات اجتماعية على خلاف أهداف الثورة في العيش والعدالة الاجتماعية والحرية. وبالقطع هناك اتهامات لقطاع كبير من المجتمع المدني بشأن مسألة التمويل الأجنبي، كما هو الحال في العديد من المجتمعات العربية. وتصريح «البريكي» المشار إليه سابقاً ينطوي على معلومة مضمونها أن أقل من مئتي جمعية فقط صرحت بمصادر تمويلها.
وعلى أي حال فلا أدل من تخطي الحواجز بين المدني والسياسي في تونس من أن تشكيلة كحزب النداء فرضت نفسها بسرعة الصاروخ كقوة أولى على المسرح السياسي، تتكوّن بالأصل من روافد ورموز حقوقية تنتمي إلى الرابطة، وأخرى نقابية تنتمي إلى اتحاد الشغل نفسه. ومع كل هذا فقد نجح اتحاد الشغل ومعه منظمات المجتمع المدني الثلاث الأخرى في الإسهام في صنع توافق بين قوى سياسية استعصت خلافاتها وكادت تصل بالبلاد إلى الاحتراب الأهلي. وهنا اختبر هذا المجتمع المدني فاعليته السياسية في اتجاه تعزيز فرص التحول الديمقراطي، وهو أمر افتقدته تجارب ومآلات انتفاضات الربيع العربي الأخرى سواء في ليبيا واليمن حيث تسود القبلية والطائفية، أو في سوريا، وحتى في مصر.
ويمكن القول إن جائزة نوبل تمثل دفعة من اليمين الأوروبي للمجتمع المدني التونسي تماماً مثلما يمكن تفسير انعقاد المنتدى الاجتماعي العالمي المناهض للعولمة الرأسمالية في تونس لدورتين متتاليتين 2013 و2015 بمثابة دفعة من اليسار. وعلماً بأن اليسار الأوروبي لعب الدور الأكبر في اختيار تونس لهذا الانعقاد.. وهذه رسالة يجب ألا تخطئها عين.
وسيدي بوزيد: "سيرة ثورة يرويها أهلها" و"سيرة مزدوجة لمبارك وبن علي". وأيضاً له قيد الطبع «الديمقراطية الصعبة: رؤية مصرية للانتقال التونسي».

كارم يحي : كاتب صحفي مصري ومؤلف كتاب: "نظرتان على تونس من الديكتاتورية إلى الديمقراطية"