آراء

الجيش التونسي و "الثورة الهادئة"

 نشر موقع مركز "كارنيغي للشرق الأوسط" دراسة هامة حول موقع ومكانة الجيش التونسي بعد ثورة 14 جانفي 2011، خاصة الدور المركزي الذي لعبه، في حماية مسار الانتقال السياسي، دون التدخل المباشر فيه، وبالتالي البقاء بعيدا عن التجاذبات السياسية والايديولجية.

تحت عنوان “ثورة هادئة: الجيش التونسي بعد بن علي”، تناول الباحث الأمريكي شاران غربوال، من جامعة برينستون، عودة الجيش في تونس ليكون له موقع في الانتقال الديمقراطي الجاري، بعد أكثر من خمسة عشريات من التهميش، طيلة فترة الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة، وخلفه الرئيس زين بن علي الذي قامت عليه ثورة منذ نحو 5 سنوات.
اشار الباحث الى أن بداية التحول في العلاقات المدنية-العسكرية بدأت في تونس مع الثورة، ويتابع غربوال قائلا: “بدأ الجيش، الذي ظل مهمشا على مدى عقود في عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة وخصوصا في ظل الدولة البوليسية للرئيس السابق زين العابدين بن علي”.
ويشير شاران غربوال، الى أن عملية الانتقال السياسي الجارية في تونس أحدثت تغييرات في العلاقات المدنية-العسكرية. ورصد شاران هذه العلاقة الجديدة في خمسة عناصر:
فقد انتقلت إدارة الجيش من الحكم الشخصي للمستبدين السابقين الى قنوات أكثر لامركزية، كان تغيير القيادة السياسية في تونس إيذانا بنهاية تمييز الضباط الآتين من المناطق الساحلية الثرية التي ينحدر منها بورقيبة وبن علي، أرغمت التهديدات الأمنية الخطيرة التي تواجهها تونس حكومات ما بعد الثورة على تعزيز ميزانية الجيش وأسلحته وروابطه الدولية وقدراته المؤسسية ونفوذه السياسي، تمتع ضباط الجيش السابقون بقدر من العدالة الانتقالية أكثر من باقي التونسيين، وفي الأخير أصبح الضباط المتقاعدون اعضاء فاعلين في المجتمع المدني النشط في تونس، ووفروا للجيش جماعة ضغط جديدة تسعى الى تعزيز مصالحه.
كما اشار الباحث، الى ان سنة 2016 بدأت تعرف زيادة في قوة الجيش، واعتبر ذلك بمثابة “ظاهرة صحية للديمقراطية الفتية في تونس”، وذلك “بالنظر للتحديات الأمنية وانعدام الخبرة العسكرية لدي القادة المدنيين في البلاد”.
ويخلص شاران الى القول بأن وبعد عشريات من تهميش المؤسسة العسكرية في تونس، يبدوا أن تطورات ما بعد ثورة 14 يناير 2011 “تهدف الى تصحيح ذلك الخلل التاريخي”. وهنا يناشد الباحث الدول الغربية والدولية على ضرورة “أن تحرص على تشجيع نمو الجيش التونسي تمشيا مع المبادئ الديمقراطية”.
ان من بين العوامل –التي قد يغفل عنها الكثيرون – التي تفسر تواصل وتقدم مسار الانتقال الديمقراطي التونسي، هو “حياد” و”عقيدة” المؤسسة العسكرية. التي قامت بحماية أمن البلاد منذ انطلاق الحركة الاحتجاجية في ديسمبر 2010.
كما استمرت في تأمين أسباب الاستقرار والأمن وحماية الدولة من الانهيار إلى اليوم، وحتى بعد قيام مؤسسات شرعية منتخبة. وهي تمثل حالة اجماع لدي كافة التونسيين نخبا وشعبا، وفي اشارة للدور المركزي للمؤسسة العسكرية، كتبت الصحفية  “ازابال موندرود” (مقال  نشر في جريدة “لوموند الفرنسة”(عدد 14 جانفي 2012) ) أكدت فيه على أن “الجيش صامت لكنه حاضر بقوة في المشهد الأمني والسياسي التونسي، بعد الثورة”.
ولعل تمديد “حالة الطوارئ”، بعد كل عملية إرهابية ، جعل المؤسسة العسكرية هي المعنية بمتابعة ادارة شؤون البلاد الأمنية، على الأقل الى حد الان، وهو ما يكشف ايضا عن امكانية لعبها أدوار مهمة في تامين المسار الانتقالي، مع المحافظة على عقيدتها التي تاسست عليها، وبيتن كل الاحداث أنها قناعة راسخة لا تتزحزح.
بعد الثورة، وبرغم سنوات “التهميش” الطويلة التى تعرضت لها المؤسسة العسكرية، فانه كان في الموعد، وتحرك لحماية الأمن والحفاظ على استمرارية المرافق الحياتية. فحرس مؤسسات الدولة، وأشرف على حسن سير الامتحانات الوطنية (الباكالوريا)، وصابة القمح والشعير والزراعات الكبرى، وكذلك الاستحقاقات الانتخابية في  أكتوبر 2011 وفي 2014. وبرغم محورية ومركزية الدور الذي لعبه، فقد حافظت المؤسسة العسكرية على حياديتها، لكن في هذه المرة كان “حيادها ايجابيا”. وأكدت أنها لا ترغب في السلطة بل أنها “زاهدة في السلطة”، وان تحركها أملته “عقيدتها الوطنية” في المقام الأول وأن “السياسة للسياسيين”، الذين نأمل أن لا يدفعون المؤسسة العسكرية للتخلي عن عقيدتها.
في الاخير، تجدر الاشارة الى أن من بين الاسباب الأكثر شيوعا التي فسرت النجاح النسبي للعملية الانتقالية في تونس، هي طبيعة جيشها. فالقوات المسلحة التونسية هي الاصغر حجما في العالم العربي، حيث يبلغ تعدادها حوالي 40 ألف في الخدمة الفعلية من أصل عدد سكان يقرب 11 مليون نسمة.
مع العلم، وأن جنود تونس لم تخض اي حروب كبري، حيث ظلوا الى حد كبير “سجناء” الثكنات (مثلما أشار الباحث الأمريكي شاران غريوال، نقلا عن شهادة لأحد الضباط التونسيين). وبسبب نقص التمويل والتجهيز، وتحييده عن السلطة الساسية والاقتصادية في عهد الرئيسيين السابقين بورقيبة وبن علي، لم يطور الجيش كمؤسسة أبدا مصالح تجارية عميقة من شأنها أن تربطه بمصير الحكام. وقد مكنه عدم وجود مصالح خاصة من تجاوز زين العابدين بن علي بسرعة بعد الاطاحة به، ومن ثم الابتعاد عن 
التطورات السياسية الداخلية على نحو لم تقم به الجيوش الاخري في المنطقة العربية.
منذر بالضيافي : جريدة الصريح