آراء

هل إنتهى شهر العسل بين الشّيخين !؟

ما يظهر على السطح في المشهد السياسي، لا يمكن أن يُخفي ما يعتمل في كواليس الأحزاب ودوائر الحُكم، وخاصة في مفاصل السلطة وصُنّاع القرار، حيث بالموازاة مع الحراك الظّاهر، تدور حرب باردة داخل «صمت القصور» وتعتمل داخل هذا الصمت عديد المواقف والمعطيات التي قد لا تظهر للعيان جليّة، وقد لا يعبّر عنها أصحابها علنا، بل قد يخطئ الكثيرون في فهمها، ويبنون أوهاما على أساس ما يظهر للعيان فقط.
في المشهد الحالي يبدو للوهلة الأولى أن صانع القرار حاليا هو السيد يوسف الشاهد الذي شكّل حكومته بالسرعة القصوى ودافع عنها وتحمّل الكثير من الضغط، لكنه صمد بها وأوصلها الى البرلمان ونالت ثقة النّواب.
لكن الجميع يعلم أيضا أنّ الرجل لم يكن وحيدا، بل لم يكن الفاعل الرئيسي في العملية كلها، وان الذي هندسها باتقان واشرف على كل تفاصيلها هو الرئيس الباجي قائد السبسي، وكثيرون في تونس اقترن مفهوم الفعل السياسي في مخيلتهم بالشيخين، الباجي والغنوشي، وبات الكثيرون ايضا مقتنعين أن السياسة يصنعها الشيخان، وأنهما متفقان في كل شيء، وأنّهما ينسقان في كل المواضيع تقريبا، ولا يضع أحدهما «خيطا في إبرة» كما يُقال، الا بعد استشارة حليفه.
لكن الذي لا يعلمه هؤلاء أن المعطيات تغيّرت، وأن روح اتفاق باريس قد وقع خرقها من الرجلين، وأن عام 2016 حمل معه تغيّرات كثيرة على ربيع الودّ والحبّ الذي لم يعمّر بين الرجلين أكثر من أشهر معدودات.
ففي مطلع 2016 زار الرئيس الباجي قائد السبسي، دولا في الخليج العربي، وتحدث من الدوحة بالذات، ليقول باختصار شديد أن الاسلاميين لن يحكموا ولا مستقبل لهم في تونس.
الرسالة وصلت واضحة الى الشيخ راشد، واستوعبها جيدا، وحتى ان ردّ عليها بعض مساعديه فانهم لم يجرؤوا أن يفندوها بل قبلوا بها بمنطق من «ابتلع السكين بدمها وصمت».
ردّ الشيخ راشد لم يتأخّر، بل أنجز فورا، والرئيس لم يَعُدْ بعدُ من الدوحة، إذ استدعى الى مونبليزير عَضُدَه الأيمن رضا بلحاج، ورئيس حكومته الحبيب الصيد، وقد يكون طلب منهما التكتّم عن المقابلة التي جرت معهما كلّ على حدة طبعا، وقد يكونان تصرّفا من تلقاء نفسيهما ولم يكتب أيّ منهما تقريرا عن اللقاء، للباجي عندما عاد من قطر.
ولأنه يعرف جيدا معنى أن يلتقي رجاله الثقاة بغريمه في غيابه، فقد تكلّفت غالية لكل منهما، ودفعا ثمنها أضعافا مضاعفة، وفهم الشيخ الرسالة مرة أخرى وعرف أن الرئيس لن يسمح لأحد في محيطه ان يكون قريبا ولو بأدنى ما يمكن من مونبليزير، وهذه ليست مبالغة فلمن يجزمون بالشراكة الاستراتيجية بين الرجلين، كيف تكون شراكة ولا يوجد في قصر قرطاج ولو موظف واحد في أحواز النهضة ؟
ولئن ابتلع الشيخ الرسالة بصمت، فإنّه قابلها بردّ اراده استعراضا للقوة، واستدعى اليه شريكه الباجي، وربّما كان يتمنّى في داخله ان لا يأتي، لكنه اتى، في حركة تحدّ أكثر منها واجبا، وقابل تحدي الشيخ بمثله، وخاطب الجماهير التي حشدها الشيخ في رادس، بما يفهمون، وتلا عليهم آيات من القرآن، كان يقصدها هي بالذات، وأراد لهم ان يسمعوها ويتدبروها، وقد يكون الشيخ راشد وحده من فهم معانيها، وعرف الى ماذا يرمي الرئيس، وعرف ايضا ان الاستعراض النهضاوي لم يرهبه، بل قد زاده ربّما بعدا عنه، أو جفاء ناحيته، بعد المؤتمر، حاول الشيخ راشد ربّما أن يفهم ما يدور في خلد شريكه السابق وأن يحاول اعادة مستوى الصداقة الى ما كانت عليه، لكن يبدو أن الأوان قد فات، رغم السيل الجارف من تصريحات مساعديه التي كانت تمجد سياسة الباجي وحكمته ولا تفوت فرصة الا وتكيل فيها الثناء والمديح للرجل وحتى لحكومته الرشيدة. وهنا كانت المفاجأة، اذ في الوقت الذي كان قياديو النهضة وعلى رأسهم الشيخ راشد، ومجموعة الجزيري وزيتون ورفيق عبد السلام وحتى عبد اللطيف المكّي، يثنون على حكومة الصيد التي اختارها الرئيس فاجأهم الرئيس بأن أعلن عن نيته ازاحة الصيد واسقاط حكومته، ويعلن مبادرته في التلفزة الوطنية، دون ان يتشاور مع الشيخ ودون حتى أن يعلمه، لا هو ولا الصيد ولا شركاء آخرين.
المفاجأة قد تكون هزّت الشيخ والحركة من الأعماق، اذ لم يتصور ان يقدم الباجي على خطوة بهذا الحجم دون اعلامه، واستشارته أو حتى أخذ موافقته.
لم يستوعب المسألة في البداية، وظنها لا تعدو ان تكون مزحة أو ممارسة لضغط عال على الصيد، فبادر الى اعلان تمسكه بحكومة الصيد ودعمها، وهو ما زاد تقريبا من اصرار الباجي على ازاحتها، ولم يجد النهضاويون أمام التطور السريع الذي شهدته المبادرة، الا ان يغيّروا مواقفهم ويعلنوا مساندتها ويتخلوا عن الصيد، معتقدين ان ذلك سيشفع لهم عند القصر، لكن ساكنه لم يحرك ساكنا، ولم يعامل الشيخ كاستثناء في المشاورات بل قابله مرتين كأي شريك اخر. عند وصول الأمور الى هذا الحد أراد الشيخ ان يتنمر ويرفع رأسه ليعرف ماذا يجري فرمى بالون اختبار على لسان مساعديه مفاده ان النهضة يجب ان تأخذ نصيب الأسد في الحكومة القادمة، بما يناسب أغلبيتها العددية وثقلها السياسي.
الرّد من القصر جاء سريعا، «لن تأخذوا الا النّزر الذي أقرره أنا، ولن يكون الا قليلا». عندها لم يجد الشيخ مهربا من العودة الى «المراجع العليا في باريس» خاصة امام الضغط الهائل من جماعته في داخل الحركة، الذين لم يستوعبوا أن يلعب بهم الباجي ولا يعطيهم مقابلا يليق بحجمهم.
العودة للمراجع العليا لم تأت بجديد، اذ بعد ان طار الشيخ بالسرعة القصوى الى باريس مصطحبا معه أقرب خلصائه من الجيل الجديد للحركة، واستعرض مدنيته هناك واحتفل في عاصمة الأنوار بعيد ميلاده، قابل كبار المسؤولين، واستفسر عما يجري لشريكه الذي بات يتصرف بمفرده وبغموض ايضا، وفهم من المراجع العليا الضامنة لمعاهدة باريس، ان شريكه يتصرف بضوء اخضر من هناك، وأن لا فائدة من مناطحته لأنه مدعوم، ولأن وضع الاسلاميين في المنطقة والعالم مازال حساسا، وان «العين عليهم» في كل مكان، فمن الأجدى والأسلم للجميع أن تسكت النهضة وتترك الأمور تسير على خير.
ولم يكذّب الشيخ خبرا، اذ عاد فورا ليرفع الغطاء السياسي عن الحبيب الصيد ويقوي من مساهمته في اسقاطه، بل انه لم يتوان ان يسري فجرا الى مجلس النواب ويجمع كتلته البرلمانية ويجبرهم على نزع الثقة من الصيد استجابة لطلب الرئيس حتى وان لم يطلب.
في الجانب الاخر واصل الباجي عمله منفردا ووضع من شاء من الوزراء وعزل من اراد وانتدب من اعجبه، دون ان يعود للشيخ راشد لا بالمشورة ولا حتى باعلام.
تقبلها الشيخ راشد بصمت، وقدم السير الذاتية للوزراء الذين طلبهم القصر، ولم يملك الا ان يصدر بيانا يزكي فيه التشكيلة التي اختارها الباجي من النهضة، وبعض تحفظ خجول على بعض الأسماء، مع استعداد تام للموافقة على الحكومة وتمريرها.
فهل تشهد الساحة السياسية فصولا اخرى من المواجهة الصامتة بين الشيخين الشريكين أم تقف الأمور عند حدود تمرير الحكومة ويعود الودّ بينهما الى سالف عهده؟ ذلك ما ستفرزه الأيام القادمة، ويبدو أنها حُبلى بكثير أحداث ومفاجآت.

محمد بوعود