ثقافة و فن

قراءة في 'قلادة من الضفة الثانية 'لنجم الدين خلف الله ..'وها أنا أتبع السارق حتى باب المنزل'

 "رتبت جذاذاتي عشرات المرات حتى أحصل على سلاسة ما دون جدوى ، اظطررت الى أن أزيف أشياء لأحافظ على تماسك ظاهري ، تخيلت بعض الأحداث المفقودة ..." من هنا تبدأ المجموعة القصصية "قلادة من الضفة الثانية " لنجم الدين خلف الله ، من حالة اجهاض عسيرة حين يختلط الذاتي بالموضوعي ، حين تكون الحكايا جزء منا ، حين تولد منا ، حين تسكن أحشائنا لسنوات  ثم تصاعد الى الذاكرة كنزيف داخلي ...

 تحكمنا الذاكرة فنكتب..نحن نكتب حين تصير الذاكرة عبئا كبيرا ...كثيرة هي الحكايا المخزنة داخلها ، مرعبة هي الصور التي تقفز امامنا الواحدة تلو الاخرى...أنى للحرف أن يكتب صورة؟ أي لغة تحتمل الصور؟ صور ألوانها تتأرجح بين سواد الماضي وحاضر كبؤرة ضوء صغيرة جدا تطل من كم السواد، الكفيف ضوءنا ...اباءنا الذين صنعوا جزءا من باريس ضوءنا...الحب ضوءنا ...هذا الضوء يغشيه سواد نظام استعماري حكمنا من الداخل ومن الخارج ..من نظام دستوري ظل يحاصرنا لسبعة عقود الى نظام استعماري فرنسي لم ينته من مع خروج فرنسا من تونس بل تواصل الى دخول التونسيين الى فرنسا فارين الى بلد فولتير ..الاستعمار في بلد اخر أهون من استعمار داخل الوطن...
يقول نجم الدين خلف الله في مقدمة مجموعته "قلادة من الضفة الثانية "و الصادرة حديثا أن :" بعد تعاقب شبه أسبوعي للأقاصيص اكتشفت أنني ومن دون قصد مني أصفي حساباتي مع تركتين : الاستعمار الفرنسي  من جهة و منها يتفرع وضع المهاجرين في بلاد فولتير ومن أخرى طغيان الحزب الدستوري الذي حكم تونس قرابة سبعة عقود"
بين استعمارين لا يتوقف نزيف الصور: صورة البحر "الغول" الذي يلتهم أبناءنا، صورة الجلاد وضحيته، صورة الجاسوس المفعول به ، صورة من ثورة أو صور ثروة مسروقة...
اجتثاث هذه الصور من الذاكرة كان أشبه بمن يفقأ عينه بيديه...حالة من الغليان تقاسمناها مع الكاتب وهو يحاول الحد من تناسل أفكاره وحصرها في رقم ، في عدد محدد من الأقاصيص ووفق تقنيات قص تفرض شروطها أحيانا فتقيد المعنى...نخال للحظات أن الكاتب قد توقف به الزمن لينتشي انتشاء صراع شخوصه على مسرح من مسارح العالم العظيمة...هو ذاته الكاتب الذي لم ينته باقتطاع أول تذكرة لباريس هربا الى بلد فولتير كما تحدث عن شخوصه ...ففي لحظات يتداخل ضمير المتكلم وضمير الجمع الغائب ...وفي لحظات يحاول القاص التنصل من زمن الكتابة الان وهنا ويستمتع بذاك الحوار الذي  دار بينه وبين الكفيف في أقصوصة عنونها بـ "ليس كل المكفوفين طه حسين" ، قصة بطل السباحة كمال وكيف تحول من مطارد سياسي في تونس الى سباح بطل في اشبيلية اسبانيا ...
حالة الصراع لم يختزلها التداخل بين زمن الكتابة وزمن الحدث وانما الصراع كان في أشده على مستوى المضمون فاما أن يفرغ ما تحمله الذاكرة من شهادات واعترافات وحقائق كالتي اختزلتها قصة شوقي الجاسوس "غصبا" والتي يبدو أنها أفلتت من ذاكرة نجم الدين خلف الله دون تنميق لتفاصيلها. فقد لاحظنا في بعض الأقصوصات محاولات "شحيحة" في اعطاء الحقيقة كاملة لاننا على يقين ان هذه المجموعة القصصية لم يرد بها القاص أن تكون مجرد أثرا أدبيا أو الاقرب انه كان يريد طرح تقيدم شهادات تاريخية لوقائع عايشها ومازال يعايش شخوصها. لهذا لم نتفاجأ حين زف الينا نجم الدين خلف الله في نهاية مجموعته هذا الخبر: "هذه باكورة الأعمال والنية مواصلتها بمجموعة ثانية " وها انا أتبع السارق حتى باب المنزل " لنرى بم "يرجع المرسلون"...والاقرب أن "النية مواصلتها برواية" كلجنة صنع الله. يقول نجم الدين خلف الله على لسان شخصية أقصوصته الاخيرة والتي عنونها ب"رواية مفككة تاجرت بالام العرب:"اقتنعت الان أنني كاتبة قصص فاشلة نشرت مؤخرا روايتي الخامسة ، اعتقدت أنها ستحقق بعض نجاح تنسيني خيباتي السابقة ولكنها لم تحظ بأي قبول لدى القارئ االفرنسي. رغم أصلي المغاربي اتهمني بالمتاجرة بالام العرب ، اعترف أن منطق روايتي مفكك للغاية ولكن هذا ليس خطئي الحبكة معقدة : انتحال شخصية ، تحرش جنسي ، وتدخل دولي حاولت تركيب مراحلها فلم يستقم منها شيء "
للاشارة  فان  "قلادة من الضفة الثانية " صدرت حديثا ضمن منشورات سوتيميديا.