وطنية

بحث جامعي يفكّ ألغاز حادثة "باب سويقة" ويثير جدلا في اوساط حركة النهضة

 أثار بحث جامعي قدّمه مؤخرا الاعلامي ورئيس تحرير الجريدة الالكترونية"حقائق أون لاين" محمد اليوسفي جدلا كبيرا على صفحات التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الاعلام ويُتوقّع أن يثير مماحكات في أوساط المنتمين والمنخرطين في حركة"النهضة. كما أثار هذا البحث الجامعي أيضا سجالا وجدالا فكريا وتاريخيا في الاوساط السياسية والثقافية بتونس باعتبار تناوله لموضوع حادثة باب سويقة التي جدّت سنة 1991 .

هذا العمل ورد ضمن رسالة ماجستير حول  التاريخ الحديث والمعاصر تحت عنوان "حادثة باب سويقة 1991 من خلال الصحافة والشهادات التاريخية " قدّمت بكلية الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس باشراف الاستاذ عبد الواحد المكني والمقررين الاستاذين فتحي ليسير وعادل بن يوسف وقد توّج هذا البحث الذي يُعد الأول من نوعه بحصول صاحبه على رسالة الماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر بملاحظة حسن جدا .
وللوقوف على تفاصيل هذا البحث ونتائجه التقت 'آرابسك" بالاستاذ محمد اليوسفي في هذا الحوار الذي تضمن المعطيات التالية:
الباحث في سطور:
بداية نشير الى أن محدّثنا هو باحث في التاريخ السياسي المعاصر والراهن ،متحصل على شهادة الماجستير من كلية الاداب والعلوم الانسانية بصفاقس وهو حاليا بصدد اعداد أطروحة دكتوراه حول تاريخ ظاهرة الاسلام السياسي بتونس ما بعد الاستقلال وتتميّز مباحث ضيفنا وهو من  مواليد 1989 ويعمل كصحفي منذ 2011 ورئيس تحرير الصحيفة الالكترونية"حقائق أون لاين" باهتمامه الفكري والتاريخي بإشكاليات الدين والسياسة فضلا عن المثقف والسلطة.
مبررات اختيار البحث في الموضوع:
قبل الإجابة عن سؤالنا حول مبرّرات تناول هذا الموضوع أفادنا ضيفنا أن اختياره لموضوع البحث لم يكن اعتباطيا مؤكدا أنه نتاج جهد من النبش في أرشيفات ووثائق وكتابات و صحف و تسجيلات سمعية بصرية وجمع لشهادات شفوية ومعطيات تاريخية و سياسيّة طيلة ما يناهز الثلاث سنوات قائلا بالخصوص :"حاولت أن أضع القضيّة في إطارها التاريخي قبل البحث عن ملابساتها و حيثياتها و استتباعاتها المتعدّدة و المتشعبّة".
وأضاف أن هذا البحث يتناول بصفة عامة الفترة التاريخية 1987 و 1992 التي كانت حبلى بالتطورات و الانتكاسات السياسية خاصة بعد أن أضحى بيان 7 نوفمبر مجرد وعود كاذبة و بدأت البلاد تسير في نهج غير ديمقراطي أجهض معه التعايش و الوئام الوطني و ظهرت بوادر تشكّل نظام استبدادي بوليسي يعمل بواجهة مدنيّة،كما يتنزّل هذا البحث ضمن التاريخ السياسي الراهن الذي يعنى بالأمد القصير.
آليات البحث ومصادره:
وعن آليات ومرجعيات بحثه أفاد اليوسفي أنه اعتمد في بحثه على شهادات حصرية ودراسة نقدية تاريخية لكل ما كتب حول الحادثة التي مثّلت ولا تزال احدى المحطات الكبرى التي ارتبطت بالجدل حول حركة النهضة والتي تعتبر اليوم الحزب الثاني في البلاد كما كشف البحث ، استئناسا بمجموعة شهادات و وثائق ، معطيات جديدة عن هذه الحادثة التي تم تناولها و لأوّل مرّة بعيدا عن ضوضاء المنابر الإعلامية والحسابات الضيقة و ارادة التوظيف أو التزييف من هذا الطرف و من ذاك.
حقيقة واقعة أحداث باب سويقة:
واقعة باب سويقة جدّت فجر يوم 17 فيفري 1991 ومثّلت كما قال اليوسفي حدثا مفصليا في تاريخ الصراع السياسي بين حركة النهضة والسلطة في عهد الرئيس بن علي،وقد اكتنفت قضيتها على امتداد ربع قرن مضى العديد من النقاط الغامضة.
وتذكيرا بهذه الحادثة كما جاء في البحث أشار اليوسفي الى أن قضية باب سويقة 1991 أعدم فيها 3 من قواعد حركة النهضة ممّن تتراوح اعمارهم  بين 17 و 25 سنة وأن  هذا الثلاثي الذي أعدم غير معلوم إلى اليوم مكان دفنهم وهو ،على ما يبدو  في نظره، مقبرة الجلاز في مكان منزو حيث تمّ في البداية تحجير الدفن قربه إلى غاية سنة 1996 قبل رفع الحظر حسب ما ورد في رواية لأحد حرّاس المقبرة كان حاضرا ليلة دفنهم بعد اعدامهم يوم 9 أكتوبر 1991 كما أشار الى أن أسرار مكان الدفن من المؤكد أنّها موجودة في أرشيف وزارة الداخلية التي رغم أنّ الامين العام لحركة النهضة علي العريض قد مرّ من أروقتها وكان المشرف على دواليبها فانه لم يستجب لنداءات عائلات المعدمين في القضيّة.
وأقرّ الباحث والإعلامي محمد اليوسفي في هذا الحوار"أنه لم يعد هناك مجال للشكّ في أنّ المجموعة التي هاجمت المقر الحزبي هي من قواعد حركة النهضة التي أقرّت وقتها خطّة فرض الحريات و تحرير المبادرة بهدف زعزعة النظام القائم و ربّما التخطيط للاستيلاء على الحكم في مرحلة ثانية بطريقة أو بأخرى"ليؤكّد أنه "ضمن السياق سالف الذكر جاءت عملية باب سويقة التي نفذها عدد من النشطاء الحركيين التابعين لحركة النهضة بالتنسيق مع شاب آخر منهم كان مخترقا لحزب التجمع في تونس المدينة حيث أمدهم بكلّ التفاصيل حول طبيعة المكان و كيفية توزع المكاتب وقد كان الهدف الأساسي و الوحيد هو حرق المقر دون استهداف قصدي للحرّاس الذين كانوا يشتغلون ضمن ما يسمّى لجان اليقظة وهي تشكيلات شبه مليشاوية وغير قانونية و لها قصّة تاريخية منذ فترة الخلاف البورقيبي- اليوسفي وقد لعبت أيضا دورا في قمع الحركة النقابيسن في  عهد مدير الحزب الحاكم محمد الصياح في السبعينات".
وقد أكّد اليوسفي لـ"أرابسك" أنه تبيّن له من خلال بحثه و بشكل شبه نهائي أنّه "من الصعب أن تكون قد حصلت عملية شدّ وثاق للحارسين اللذين طالتهما ألسنة اللهب في حادث عرضي لم يكن مبرمجا وهذا تؤكده أحكام القاضي حسن بن فلاح في الطور الاوّل من المحاكمة التي عرفت انحرافا خطيرا في الطور الثاني مع القاضي عبد القادر الذائع الذي أقرّ الاعدام دون توفر شروط المحاكمة العادلة وقد كان القرار سياسيا بامتياز و كذلك تقرير مساعد وكيل الجمهورية القائم بحصّة الاستمرار يوم وقوع الجريمة والذي لم يذكر في معاينته وجود آثار حبل محترق في المكان فضلا عن كون التقرير الطبي يفنّد ضمنيا حصول ذلك".
كما أضاف أن "عددا من منفذي العملية من الذين حوكموا في القضية اعترفوا في اعترافاتهم أنّهم نفذوا الهجوم فعلا لكن القتل العمد لم يحصل ولم يكن مخطّطا له، مع العلم أنّ نفس المجموعة التي خطّطت لحرق مقر لجنة التنسيق بباب سويقة قامت قبل أيّام من ذلك بارتكاب نفس الفعل في مقر شعبة الاسواق غير بعيد عن جامع الزيتونة ولكن هذه الحادثة لم يكن لها صدى اعلامي أو سياسي رغم أنّها تعكس ممارسة عنف غير مقبول في كلّ الحالات".
الرؤية الشخصية للباحث:
في حوارنا أقرّ اليوسفي اجابة عن سؤالنا عن مدى موضوعية تناوله للقضية ،خصوصا في هذا الظرف بالذات الذي يشهد سعي حركة النهضة الى الخيار المدني الديمقراطي ضمن مشروعها السياسي ،أن النتائج التي رشحت عن هذا البحث  :"ليست لها أيّ علاقة بخلفيتي الفكرية ورؤيتي الشخصية ، كمثقف و مواطن ، لنظام بن علي أو لتجربة حركة النهضة أو لمسألة الإسلام السياسي ككل" و يضيف "ما أنجزته هو بحث أكاديمي صادق على أهميته ومدى احترامه للضوابط المنهجية والمعرفية الصارمة ثلّة من أبرز المؤرخين الجامعيين في تونس و الذين كانوا في لجنة المناقشة من منطلق قناعتي أن الباحث عليه أن يلتزم بالموضوعية مع التحلي بمبدإ أساسي قوامه البحث عن الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان،فالحقيقة التاريخية في نهاية الامر تبقى مسألة تخضع لقاعدة النسبية ثم إن الكتابة في التاريخ السياسي الراهن بشكل خاص ليست علما صحيحا فهي ترتكز على مناهج و مقاربات علمية لها إضافتها وحتما قد تعتريها بعض الثلمات كأّي عمل انساني وفي هذا المضمار أذكر أن  المفكر أنجلز له حكمة عزيزة على قلبي رغم امعانها في التواضع يقول فيها "إنّ تاريخ العلوم هو الانتقال من خطإ فادح إلى خطإ أقّل فداحة". ومن هذا المنطلق أعتقد أنّي قد قدمت عملا بحثيا يمكن أن يكون لبنة أولى لدراسة وتفهّم فترة من تاريخنا السياسي كانت حبلى بالقضايا الشائكة و الاحداث المعقّدة كما أن مبحثي فيه محاولة للتأريخ و التوثيق للفترة 1987-1992 التي عرفت فيها تونس تقلبات سياسية جمّة لاسيما في مستوى العلاقة بين السلطة الحاكمة آنذاك وحركة النهضة من التعايش و الوفاق إلى المواجهة والصدام والذي انتهى بتغليب الحلّ الامني لحسم المعركة لفائدة النظام القائم وقتها".
ومن جهة أخرى أكّد اليوسفي في هذا الحوار" أن النتائج التي رشحت عن هذا البحث هي الاقرار بحقيقة مرّة بالنسبة الى "حركة النهضة" وهي تورّطها في العملية العنيفة التي جدّت آنذاك بباب سويقة رغم نفي عدد من قيادييها اليوم لهذه العملية ممّا يطرح سؤالا حارقا عن التفاعلات السياسية آنذاك واليوم مع هذه الحادثة بعد صدور هذا البحث.
التفاعلات السياسية مع الحادثة:
أكّد اليوسفي في بحثه"أن أسرار مكان الدفن من المؤكد أنّها موجودة في أرشيف وزارة الداخلية التي رغم أنّ الامين العام لحركة النهضة علي العريض قد مرّ من أروقتها وكان المشرف على دواليبها ولكنّه لم يستجب لنداءات عائلات المعدمين في القضيّة"كما سبقت الإشارة .ومن هنا يطرح السؤال المحيّر : لماذا رفض علي العريض كشف النقاب عن أرشيف هذه العملية وهل اطّلع عليه عندما مرّ بوزارة الداخلية أو ما يمكن أن نطلق عليها "وزارة أسرار الدولة"؟
للاجابة عن هذا السؤال لا بدّ من البحث في التفاعلات السياسية مع هذه الحادثة منذ التسعينات وصولا الى اليوم،وبالرجوع الى هذه البحث الجامعي يؤكد صاحبه أن حادثة باب سويقة كان لها تأثير كبير على المسار السياسي للبلاد وتكفي الاشارة الى أنه ذكر أنّه مباشرة بعد وقوعها قام بن علي مساء الاحد بتعيين عبد الله القلال وزيرا للداخلية ثمّ عيّن في ما بعد الجنرال علي السرياطي مديرا للأمن الوطني وهي خطّة قد تمت العودة للعمل بها بعد الغائها وهو ما يبرز حجم الاستتباعات السياسية و الامنية والقضائية لهذه الواقعة كما يؤكّد اليوسفي ليضيف" والجميع يعلم لاحقا المنزلقات الخطيرة التي حصلت في ظلّ تغليب الحلّ الامني لمواجهة ظاهرة الاسلام السياسي ككلّ وحركة النهضة على وجه الخصوص،فحادثة باب سويقة أحدثت زلزالا صلب تنظيم حركة النهضة فشهدت موجة استقالات من أبرزها انسلاخ عبد الفتاح مورو و بنعيسى الدمني و الفاضل البلدي ونور الدين البحيري الذي ظلّ يناور هنا و هناك و قد بلغ الامر  بـ"مورو" أن أعلن شروعه في تكوين حزب جديد وقد التقى بالمستشار السياسي للرئيس بن علي لكنّ مبادرته تعاملت معها السلطة بالتسويف فاختار الانسحاب في هدوء رغم محافظته على عضوية المجلس الإسلامي الأعلى".
ومن جهة أخرى عجّلت هذه الواقعة حسب اليوسفي "باستقالة البلدي وهو من القيادات التاريخية للاتجاه الإسلامي ومن مؤسسيه وقد كان وقت الحادثة رئيس مجلس الشورى في حركة النهضة وذلك تعبيرا منه عن  إدانته للعنف وهو لم يعد لصفوف الحزب حتّى بعد 2011".
و يضيف اليوسفي: " لقد كانت حادثة باب سويقة نتاجا لاستراتيجية خاطئة اقرتها حركة النهضة تحت ذريعة الردّ على عنف و إرهاب الدولة و قمع النظام لها بالعنف المضاد وهو منطق أرعن حتّى تعريفات ماكس فيبر لا يمكن أن تستوعبه وقديما قال المصلح عبد الرحمان الكواكبي أحد رواد مشروع النهضة العربية في القرن 19"الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف،كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا". و طبعا استغلّت السلطة كما يجب هذه الواقعة و نجحت في توظيفها لتبرير الخيار الامني في ضرب حركة النهضة تحت يافطة الذود عن الدولة و المجتمع ممّا تعتبره إرهاب الحركات الاصولية و الظلامية".
ويؤكّد قائلا أيضا" لقد ظلّت قضّية باب سويقة مدّة 25 سنة حبيسة التجاذبات السياسية و التوظيفات القذرة من هذا الطرف و ذاك بشكل كاد يعتّم على الحقيقة التاريخية،وحتّى بعد 14 جانفي 2011 لم تتجاسر أيّ جهة على فتح ملف القضيّة و كشف الحقيقة كما هي دون تحريف أو تزييف أو توظيف"
كما أشار ضيفنا إلى أنّه بعد أن حوكم المتوّرطون في هذه الواقعة وهم الهادي النيغاوي وفتحي الزريبي ومصطفى بن حسين  بالاعدام "ظلّ ملفهم ورقة مساومة وابتزاز بين السلطة والرئيس بن علي من جهة وحركة النهضة من جهة أخرى" كما أن "مضيّ بن علي في الموافقة على اعدامهم وعدم اصدار عفو بالحطّ من العقوبة إلى السجن المؤبد له تفسيراته السياسية حيث بيّنت النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث ان وقائع الحادثة كانت مخالفة نسبيّا للرواية الرسميّة للسلطة التي روّجت وقتها لحصول عملية محاولة قتل عمد للحارسين عمارة السلطاني و لزهر بن رجب في مقر لجنة التنسيق للتجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم".
تفاعل حركة النهضة مع هذا البحث وحقائقه المرّة:
لئن حاول اليوسفي من خلال هذا البحث معالجة حدث شكّل منعرجا في التاريخ السياسي الراهن بمقاربة يمكن ادراجها حسب رأيه ضمن سياق العدالة الإنتقالية والتي تشهد حاليا تعثرات جمّة لأسباب عديدة من بينها غياب و تغييب الفضاءات البحثية الأكاديمية و العلمية الصرفة عن المسار برمته مقابل اعلاء شأن المناكفات السياسية و التوظيفات الايديولوجية ، فإن هذا البحث الأكاديمي الذي نبش في بعض خفايا حادثة باب سويقة من خلال مرجعيات صحفية وشهائد ووثائق تاريخية سيثير جدلا سياسيا داخل أوساط حركة النهضة بعد كشفه لخفايا وأسرار من داخل أبناء الحركة .وقد تكون المعطيات والحقائق الواردة فيه حاسمة في تحديد مستقبل هذا الحزب السياسي أثناء انعقاد مؤتمره حيث من المنتظر أن يشهد هذا المؤتمر تجاذبات كبرى داخل المنتمين والمنخرطين بهذا الحزب بعد معرفتهم لحقائق جديدة عن هذه الحادثة التي وظّفت من قبل النظام الحاكم آنذاك ومن قبل بعض القيادات السياسية داخل حركة النهضة حيث يبدو أن هذا البحث الجامعي جاء في وقت حارق بالنسبة الى بعض المنتمين لهذا الحزب وهو يتأهب لمنعرج جديد في مساره يكون أكثر مدنية وتونسة.
 
اعداد: المنصف الكريمي