إذا كانت عدسة الكاميرا أدنى من موضوع الصورة فإن ذلك يرمز غالبا إلى رِفعة الموضوع و قوته ، و إذا كانت عدسة الكاميرا أعلى من موضوع الصورة فإن ذلك يرمز غالبا إلى وضاعة الموضوع و ضعفه .
نفس الأمر إذا ما كنا نحن مكان آلة التصوير ، ماذا سنصوّر ؟ .. بأطاريح أوضح ، إلى ما نتطلّع ؟ و على ماذا نُطلّ ؟ .. أو ماذا نُفرز ؟ و ماذا نصبُّ ؟
و بين العُلوّ و الدُنوّ درجٌ من التحليل و التأويل سواء من قِبل صُنّاع اللوحة المشهدية أو من قِبل رُوّادِها .
هذه الصورة الفوقية ليست مثل شرفة يسقي بها صاحبها نباتاته حتى يخرَّ الماء عبر أنبوب الصرف الصحي على أحدهم صادف وجوده هناك و ليست مثل شرخ في وريد الأمة العربية يستزيد من صدع الفجوة بين الجماعات و الطوائف و الأعراق إنما الصورة الفوقية هي كلا المثالين الذين أسلفناهما مجتمعين.
هذا الرأب بينهما يحمل بين طيّاتِ الاختلافات طيّاتٌ من الخِلافات ، قد تكون لوهلة أولى من نتاج الحاضر لكنها متشعبة و مضمنة في بطن الماضي ، ذلك ما صوره لنا فيلم " القضية رقم 23 " لمخرجه اللبناني زياد الدويري المشارك ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة لمهرجان أيام قرطاج السينمائية
تدور أحداث الفيلم عن خلاف بين مواطن لبناني مسيحي و رئيس عمال بناء فلسطيني على إثر صبّ الأول على الثاني للماء عن طريق الخطأ عبر أنبوب الشرفة ليتطور الأمر إلى مشادات كلامية في بادئ الأمر و إلى قضية رأي عام في نهاية الأمر .
قد يبدو أن موقف المواطن اللبناني من الفلسطينيين عامة موقفا سلبيا و عدائيا بدون مبرر وجيه مما يثير التساؤل حى أنه بلغ به الأمر إلى التوجه بالقول للفلسطيني اللاجئ بأحد المخيمات من باب استهداف هويته " يا ريت شارون محاكم على بكرة أبيكم " ليردّ عليه بلكمة تكسر له ضلعين من قفصه الصدري لكن سبب اشتداد الأزمة مع تطور أحداث الفيلم يعود إلى خلفية الخصام الحقيقي الذي تعود حيثياته إلى ماضي المواطن اللبناني المسيحي المرتبط بمجزرة الدامور سنة 1976 على اثر مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في هذه المجزرة .
و على إثر القضايا المعنوية المُثارة رُفعت قضية مادية بالمحكمة من أجل الاعتداء بالعنف طلبا للاعتذار لكن الفلسطيني يرفض ذلك نتيجة لتمادي المواطن اللبناني في إهانته .
و بين الجاني و المجني عليه يصوٍّر الفيلم أن كفة ميزان تعاطف المشاهد تصب في صالح الفلسطيني إلى أن تُكشف حقيقة خلفية الخصام في النهاية و تُعتدل كفتّا الميزان بما يحمله كلا الطرفين من قضية تاريخية يدافع عليها .
ما يثير الانتباه هو القدرة الإبداعية لجميع ممثلي الفيلم سواء لبطليه عادل كرم و كامل الباشا أو للمحاميين المباشرين للقضية ليفاجئنا السيناريو أنه في خضم الخلاف الحاصل إلا أن محامي الأول هو في الحقيقة أب محامية الثاني و عبر كل هذه المفارقات و الثنائيات التي لخصت بالفيلم إلى توازن كفتي الميزان حُكم على الفلسطيني بالبراءة من تهمته ليدل ذلك على وجود نيّة لرأب الصدع ، لسد الفجوة ، لمحاولة إصلاح أنبوب الصرف الصحي .
امير وسلاتي