من ركح قرطاج، كتب سانت ليفانت، أو مروان عبد الحميد، فصلاً جديداً من حكاية الفن المقاوِم، في سهرة لا تُنسى من ليالي الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي، ليلة 5 أوت 2025.
"Free... Free Palestine"، كان الهتاف الذي سبق صعوده إلى المسرح، جمهور غفير أغلبه من الشباب، حجّ إلى قرطاج قبل ساعات من انطلاق العرض، رافعاً أعلام تونس والجزائر وفلسطين، ومتوشحًا بالكوفية التي تحوّلت من رمز إلى موقف. لم يكن الجمهور ينتظر حفلاً فقط، بل كان يشارك في طقس فني، سياسي، وجداني، عنوانه الحرية والانتماء.
التحية العسكرية كانت الإشارة الأولى لانطلاق العرض، لتعلو بعدها أنغام "على هذه الأرض" و"دلعونا"، وتبدأ معها رحلة موسيقية فريدة، فيها الكثير من الغضب، من الذاكرة، من التمرد، ومن الحب أيضاً.
سانت ليفانت ليس مجرد مغنٍ؛ هو تجربة فنية مغايرة، مزج في مكوناتها إيقاع الراب الأمريكي بروح الدبكة الفلسطينية، طعّم الراي الجزائري بالفلامنكو الإسباني، وركّب الأغنية العربية على خلفية إلكترونية مجنونة. موسيقاه عالم متكامل، تصعب محاصرته، فيه العربية والفرنسية والإنجليزية، وفيه بيروت وغزة، وتونس أيضًا.
في سهرة قرطاج، كان المسرح مشهدًا نابضًا بالحياة. ليفانت لا يغني فقط، بل يصوغ عرضًا مسرحيًا، يُحدّث فيه الجمهور، يمزج الكلام بالموسيقى، الحكاية بالإيقاع، والحنين بالصخب. أغانٍ مثل "هل يمكن أن تحبيني"، "الله يحميكي"، "بعينيكي" و"القليل من الأصدقاء" تحوّلت إلى لحظات تفاعل جماعي، يردّد فيها الجمهور الكلمات كأنها تراتيل.
ولأن فلسطين هي نبضه، تحدّث ليفانت بعين دامعة عن الفرق بين ارتداء الكوفية في تونس وارتدائها في بلدان أخرى. تونس التي منحته مساحة ليكون حراً في التعبير، في الحب، وفي المقاومة. في أغنية "ديرة"، التي تحمل اسم فندق طفولته في غزة قبل أن يُقصف بعد حرب 7 أكتوبر 2023، غنّى للمنفى، للجدّة، للحجارة والذكريات... وكأن حجارة قرطاج نفسها كانت تصغي إليه وتحرس كلماته.
من ألبوميه "رسائل حب" و"ديرة"، قدّم سانت ليفانت مزيجاً من الأغاني التي تتنقل بين الحب والمنفى، بين الأمل والفقد. وجعل من كل أغنية رسالة تُرسل من مكان ما من العالم إلى كل فلسطيني تائه في منفاه.
ولأنه فنان الازدواجيات الخلاقة، رفع في لحظة رمزية العلمين التونسي والجزائري، وهو يردد أغنيته "ديفا" المُهداة للجزائر. أما غزة، فكانت تحضر في كل أغنية، في كل ابتسامة يخفي بها ألم الذاكرة.
بدأ مسيرته سنة 2020 بـ"Jerusalem Freestyles"، وتابعه الملايين منذ أول لحظة. لم يكن نجم تيك توك وإنستغرام فحسب، بل كان صاحب مشروع فني حقيقي، يوثق الرواية الفلسطينية، ويرفعها من السردية الخاصة إلى مقام الأغنية العالمية.
في ليلة 5 أوت، لم يكن سانت ليفانت وحده النجم، بل كان الجمهور شريكه الكامل. حفظ أغانيه، ردّدها، غنّى معه، وشاركه الجنون والصخب والدمع. ساعتان من الأداء المكثّف، لم يخفت فيهما صوته ولا طاقته. كان أمينًا لفنه، لوطنه، ووفياً لتونس التي احتضنته كأنها صدى لغزّته.
في قرطاج، لم يكن الفنان يبحث عن المجد، بل عن مساحة ليصرخ فيها بأن "فلسطين في صوته"، وأن الفن حين يُولد من الألم، لا يمكن إلا أن يكون حرًا.