آراء

في اللامركزية ... نحو دولة المواطنة

تعيش تونس على وقع تحولات كبيرة، تمسّ رئيسيّا شكل الحكم وما يتعلّق به من مقاربات. وقد تمّ صياغة دستور – أب القوانين – بعد تجاذبات كبيرة، بطريقة توافقية، تم فيه التأكيد على خروج تونس – سياسيا – من الدولة المركزية الى الحكم المحلّي، الذي أفرد بباب كامل، لم يُشكّل عند التصويت عليه أدنى خلاف، بل تمّ تقريبا باجماع كل القوى السياسية في المجلس التأسيسي وبمباركة المكونات الحزبية والسياسية والاجتماعية والمدنية في البلاد.
إن التأكيد على أهمية الحكم المحلي وما يستتبعه من مجالس محلية مُنتخبة وأخرى جهوية ومجالس أقاليم و مجلس وطني للحكم المحلّي، تجسيد حيّ للديمقراطية المحلية التشاركية المباشرة، باعتبارها ضمان المشاركة المواطنية الفاعلة في الشأن العام بما يضمن تنمية محلية مستدامة من جهة، و هي ضمانة القطع مع الاستبداد السياسي و الحيف التنموي اللتان تجدان في الدولة المركزية المنضبطة فضاء مناسبا. ولعل هذا الخوف من – عودة الاستبداد المركزي – هو الذي كان الحافز الرئيس لاختيار الحكم المحلي والالحاح عليه، بشكل جعل هذا الاختيار الاستراتيجي عاما، لم يُرافقه، عند المؤسسين، تصوّر واضح يحلّ كل الإشكاليات المرافقة له، بل نكاد نُجزم أن "الحكم المحلي" يظل تصورا نظريا للحكم، ومفهوما نظريا عاما فقط.
إن "اللامركزية" هي في أبسط تعريفاتها، تحويل صلاحيات من الدولة المركزية الى جماعات محلّيّة تتمتّع باستقلالية مالية وقانونية، على أساس الآليات الأكثر ملاءمة لممارسة تلك الصلاحيات ضمانا للتنمية.
ولذلك أسّس الباب السابع من دستور الجمهورية التونسية الجديد، لمبادئ هذا الحكم المحلّي، وأكّد على إنشاء جماعات محلية تتمتّع بحرية "التصرّف والتدبير" واشترط عليها في ممارسة ذلك، ضمان الحوكمة الرشيدة ومشاركة المواطنين في صياغة برامج التنمية والاستثمار. يظل ذلك امرا نظريا، لانه علينا رصد الوضعية الحالية للجماعات المحلية " البلديات و المجالس الجهوية و القروية"، الامر الذي يقودنا الى تحديد التحديات القريبة و المستقبلية في علاقة بما يُثيره الانتقال في الحكم – من مركزي الى محلي – من إشكاليات.
نعيش منذ تعطيل العمل بالدستور القديم و حلّ المجالس المُنتخبة " البرلمان و مجلس المستشارين و البلديات....." سنة 2011، وضعية انتقالية تتميّز بما يلي:
- جماعات محلّيّة، بلديات تُسيّرها نيابات خصوصية غير مُنتخبة
- مجالس جهوية غير منتخبة ومُنتصبة بموجب قانون 1989 المُعلّق عمليا بحُكم تعطيل الدستور
و يخلق ذلك تحدّيات عاجلة، أهمها اجراء انتخابات بلدية وجهوية، و لن يتسنى ذلك دون:
- مراجعة قانون انتخابات المجالس المحلية و الجهوية
- مراجعة القانون الأساسي للبلديات
- مراجعة القانون الأساسي للمالية المحلية و ميزانية الجماعات المحلية و المجالس الجهوية
- مراجعة القانون الأساسي للمجالس الجهوية
و يتمّ كل ذلك، باعتباره مرحلة انتقالية، تخضع للاحكام الانتقالية النصوص عليها في الفصل 148 من الدستور. و لا يدخل الباب السابع حيّز النفاذ و التنفيذ الا عند اجراء هذه الاصلاحيات الهيكلية و القانونية للعمل المحلي و الجهوي، و يتزامن نفاذ الباب السابع مع اصدار هذه القوانين المنظمة للبلديات و المجالس الجهوية و انتخاباتها و ماليتها. و ساعتها يُمكن دعوة المواطنين التونسيين الى المشاركة في انتخابات محلية مباشرة، تُنهي العمل بالنيابات الخصوصة.
وتنفتح بعد ذلك تحديات مستقبلية أخرى، قبل الشروع أصلا في مسار اللامركزية أهمها:
- ضمان الاستقلالية المالية للجماعات المحلية وهو ما يستلزم مراجعة قانون المالية العمومية و قانون الجباية المحلية,
- توفير وتركيز أجهزة الرقابة على الجماعات المحلية. من سيهتم بمراقبة الجماعات المحلية؟ دائرة المحاسبات ام الخبراء المحاسبون؟ في كلتا الحالتين لا بد من ان يكون أعضاء هذين الهيكلين متواجدين في المحليات وفي الجهات وهو امر غير مُتوفّر الآن.
- توفير جهاز الرقابة الإداري. كيف سيتم ذلك؟ فحسب الدستور تختص المحكمة الإدارية بالنظر في الرقابة الإدارية ومقرها العاصمة ولا يعود لها النظر في الجماعات المحلية، ويخلق ذلك تحديا قانونيا كبيرا، وتغييرات كبيرة.
هذه التحديات القريبة و البعيدة المرتبطة بهذه المرحلة الانتقالية في العمل المحلي، ينضاف اليها الغموض الراجع الى عدم الدقة في بعض المصطلحات الواردة في الدستور أصلا. فما معنى "احترام مبادئ الحوكمة الرشيدة"؟ ما هي هذه المبادئ؟ هل تم تحديدها؟ و أي معنى قانوني "للحوكمة الرشيدة"؟. و كيف نضمن "مشاركة المواطنين"الواردة في الفصل 139 من الدستور؟ ما هي الآليات و المناهج المتبعة لتحقيق ذلك؟ ما هي حدود تلك المشاركة؟ ينزاد الى ذلك ضمان التنسيق بين اللامركزية و اللامحورية، و المقصود باللامحورية هي تمثيلية الوزارات و الإدارات المركزية في الجهات. ما علاقة المناصب السياسية و الادارية الجهوية و المحلية المُعينة، بالخطط المحلية و الجهوية المنتخبة؟ و ما معنى أقاليم؟ و كيف يستم خلقها، علما و انه لا حاجة لنا في تونس أصلا لهذا التصور للحكم. فكل البلدان القائمة على منطق الأقاليم، كانت الأقاليم فيها سابقة للدولة الموحدة، بل ان الدولة نشأت إثر عملية توحيد لهذه الأقاليم، و تونس دولة موحدة منذ قرون، فما الحاجة الى "اقلمتها"؟ و هل يُهدد ذلك وحدتها؟ و ما ضمان عدم مساس الأقاليم بوحدة البلاد و شعبها؟ خصوصا و ان الحديث على "الاستقلالية المالية و الإدارية" للجماعات المحلية و الأقاليم قد يمس من هذه الوحدة؟..... هذه عينة من تحديات و غيرها كثير، نكتفي في ما يلي بذكر بعض منها في علاقة بوضعية البلديات حاليا:
- لا تتجاوز ميزانية البلديات 4% من ميزانية الدولة
- لا تفوق نسبة الإطارات الــ 11% و البقية هم من العمال
- لا تفوت المساهمة في الناتج الوطني الخام الـــ 1%
- يُبين معهد الإحصاء ان مؤشر التنمية الجهوية يشكو خللا فادحا بين الجهات، إذ يبلغ في تونس العاصمة مثلا الـــ 0،76% و لا يتجاوز في القصرين الــــ0،16%
- يحتكر القطاع غير المنظم 40%من الاقتصاد الوطني و يُشغّل اكثر من 140 الف و يكاد يهيمن على كل الأنشطة في المناطق الحدودية شمالا ووسطا و جنوبا.
و نعتقد انه لا يُمكن الحديث عن اللامركزية و الشروع في ترسيخ مساراتها و هيئاتها الا بعد النظر في كل ذلك. و بحسب المبادئ العامة الواردة في الدستور فإنها يجب ان تعتمد مبدأ التفريع أي " التنازل على الصلاحيات"، و هي:
- صلاحيات ذاتية للجماعات المحلية
- صلاحيات مشتركة مع المركز
- صلاحيات محالة من المركز.
و هذه الصلاحيات يجب النظر اليها من جهة تقنية لانها تتجاوز 1432 صلاحية، و لكنها يجب ان تتأسس على رؤية سياسية عميقة، تقوم على الأهداف التنموية الجوهرية للامركزية، التي يجب ان تكون أهدافها واضحة و كمية و قابلة للقيس، مدارها المواطن، كتحسين جودة الخدمات، و التقليص من كلفتها، و دعم التنمية المحلية، و هو ما يُسهم في ضمان السلم الاجتماعي. و دون ذلك نعتقد ان الحديث على اللامركزية يظل شعارات لا تختلف في شيئ عما كان ما قبل 14 جانفي، و نشترط ان مسار اللامركزية يرتبط أشد الارتباط بأهداف نوعية تخدم المواطنين و تُساهم في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و ذلك ضمان المبدأ الدستوري في "المشاركة المواطنية"، و تجسيد كل آليات الرقابة و المشاركة من شأنه أيضا ضمان مبدا "الحوكمة الرشيدة". و في كل الحالات فان اللامركزية مسارا طويلا و مُعقّدا يجب ان يكون محكوما بمشروع وطني حقيقي، هدفه بناء دولة المواطنة القائمة على الديمقراطية بمساريها السياسي و خاصة الاجتماعي التنموي.