آراء

"وينو البترول؟"

لم تكد أزمة محافظات ما يسمى بـ «الحوض المنجمي» في تونس تشهد ضوءا في آخر النفق. حتى ادلهمت الدنيا في عيون عدد من سكان محافظات الجنوب الذين أطلقوا حملة «وينو البترول؟».
سكان «الحوض المنجمي» كانوا يصرخون ملء أفواههم "وينو الفسفاط؟" باعتبار أن جهتهم هي المنتج الأساسي لهذه المادة الحيوية في الاقتصاد التونسي لكنهم يعتقدون أنه لا يلحقهم منها إلا غبارها والأمراض المترتبة عن استخراجها من باطن الأرض. ولم تكن هذه أول مرة يحتج فيها الأهالي بل إن كثيرين يرون بأن «الثورة التونسية» كانت تعتمل في أحشاء أزمة «الحوض المنجمي» زمن بن علي. قبل أن يفجرها عود كبريت البوعزيزي بعد ثلاث سنوات في سيدي بوزيد.
لذلك كان السياسيون والمراقبون يتوجسون شرا من قرار إيقاف إنتاج الفوسفات ليس لأثر ذلك على الاقتصاد التونسي المتداعي فقط. وإنما لما يمكن أن يترتب عن ذلك القرار الأهلي من نتائج أمنية وسياسية وخيمة في بلد ما زال يكبو كلما تهيأ له أنه وقف على قدميه... هكذا جرى رئيس الوزراء إلى «قفصة» عاصمة «الحوض المنجمي». وعقد اجتماعا مع وزرائه على عين المكان للخروج بأكثر من عشرين قرارا أطفأت نسبيا الحريق هناك.
ولم يكد يمضي أسبوع على تلك العملية الإطفائية العاجلة حتى وجدت حكومة الحبيب الصيد نفسها في مواجهة حملة «شعبية» قادمة من الجنوب التونسي المتوتر أصلا بحكم التصاقه بالأزمة الليبية. تحت عنوان "وينو البترول؟" والتي يعتقد أصحابها أيضاً أن شركات النفط الدولية والوطنية لا تفعل شيئا إلا امتصاص ثرواتهم الباطنية ثم الرمي لهم بالفتات... ولعب الخيال الشعبي الجامح دورا كبيرا في هذه الحملة الجديدة التي فضل الرسميون اعتبارها «مزحة فيس بوكية» في البداية قبل أن تتحول إلى موجة تتراوح بين جد وغضب البعض وبين هزل وسخرية البعض الآخر.
هكذا قضى التونسيون أسبوعهم الأخير بين قائل إن البلاد تسبح فوق بحر من النفط.. وبين من يرى أنها تسبح في محيط من الغباء.. ولم يعد بإمكان الحكومة تجاهل الأمر والاستمرار في اعتباره مزحة بعد أن دخل الإعلام وسياسيون على الخط. لكن حملات التكذيب المضادة لم تكن كافية لإقناع «المقتنعين» بأن تونس لا تملك من النفط ولا من الغاز ما يسد رمقها. ووصل الأمر إلى التهديد بالاعتصام أمام المقرات الرسمية إلى حين الكشف عن لصوص البترول. ثم القرار بتأميمه وتوزيع ريعه على المواطنين بالتساوي!
الديمقراطية السياسية تتوازى مع الشفافية الاقتصادية بلا شك. لكن إكراهات الديمقراطية والشفافية عديدة وهي تتعقد أيما تعقيد عندما تظهر في مجتمعات تعيش ظروفا حياتية صعبة إلى جانب افتقارها للثقافة السياسية والاقتصادية معا. لتصبح مجرد إشاعة يطلقها أي «خبير» في بلاتوه تلفزيوني سائب قادرة على إشعال المخيال الشعبي والذي بدوره يصبح جاهزا لإشعال البلاد.. ومع أن موضوع "وينو البترول؟" في تونس يمكن أن ينطوي على قدر من الجدية. كضرورة عرض الصفقات والاتفاقيات في مجال الطاقة -رغم محدوديتها- على البرلمان. فإن صراعا سياسيا يبدو بينا على خط الأزمات المتلاحقة في تونس. لن يكون النفط والغاز وقودها الأخير.. خصوصا عندما يجد هذا "التقاتل السياسي" في الأعلى آذانا صاغية له في القاع. حيث تختلط الأشياء على العامة المنشعلة بالجدل والمعرضة عن العمل.. وحيث لا يفهم الناس تحديدا: كيف غفل "الطرابلسية"  عن أخذ حصتهم من البترول التونسي. وهم لصوص عتاة يعرفون ما تحت الأرض وما فوقها؟!
فيصل البعطوط