آراء

النهضة تختار الهروب على التصدّع :تأجيل المؤتمر وشبح المرزوقي يهيمن على مونبليزير

 رغم اكتمال الاستعدادات تقريبا في كل المجالات، وعلى كل المستويات، لعقد مؤتمرها في موفّى جويلية القادم، الا أن حركة النهضة اختارت على ما يبدو أن تؤجّل المؤتمر وأن تتفادى ما يمكن أن يلحق بها من أضرار أو ما قد ينعكس عليها من مضاعفات حملة وينو البترول، والحملات التي سبقتها، والتي كانت أشدّ تأثيرا بلا شك، مثل الحملة الرئاسية للدكتور المرزوقي، أو حملة مشاركتها في حكومة الحبيب الصيد.

فالحركة التي تتعرض الان لاستهدافات متعددة المصادر، أولها وأهمّها بلا شك هو الاستهداف الداخلي، الذي يخشى القائمون على شؤون مونبليزير أن يتحول الى نزيف، خاصة وأن الزيارة الاخيرة التي أدّاها رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي، الى الجنوب، واحياء ذكرى التأسيس في الضاحية الشمالية، كانتا محطّتين مُحبطتين لكل كوادر الحركة وقياداتها، الذي أيقنوا أن الحركة قد فقدت الكثير، وأن استنزاف شعب المواطنين قد بلغ منها مبلغا كبيرا، وأن جماهير عريضة من قاعدتها التي كانت تفتخر بها في الجنوب، قد غادرت أو هي على وشك الرحيل، الى مرافئ النفط واحلام الثورات والثروات، وأن الحركة ستجد نفسها وحيدة في أول طارئ قد يحفّ بها.
فقادة الحركة وعلى رأسهم الشيخ راشد يعرون جيدا ان المرزوقي قد زحف على معاقلهم التقليدية في الجنوب وافتكها الواحدة تلو الأخرى، وأن زحفه هذا قد بدأ منذ الحملة الرئاسية التي ساندته فيها النهضة، ومكّنته من مفاتيح عرينها، فانقضّ على من فيه، واستولى على أحزمتها المتعددة، وأحدث فيها شرخا لا يمكن معالجته في سنة او اثنتين، بل قد يتطلّب عقودا، لانه هزّ صورة الحركة الثورية المناضلة في عيون أبنائها وأنصارها والمتعاطفين معها، وأحدث خللا في تلك الكتلة شبه المقدّسة التي كانت أملا لآلاف من الشباب، فإذا بالمرزوقي يقدّمها لهم على أنها لا تعدو ان تكون حزبا تقليديا عاديا يمينيا غايته ومناه أن يتحوّز على حقيبة وزارية حتى في حكومة الشيطان ان لزم الأمر.
بالمقابل قدّم المرزوقي نفسه كبديل لهؤلاء الشباب، حامل للواء الحريّة، متشبّث بحقوق الانسان، حالم بالثورات التي تهز العالم، ومحقّق للاماني وجالب للثراء والنفط ورفاهة العيش.
كما يعرف الشيخ راشد أكثر من غيره أن المرزوقي قد استولى على الحصون الخارجية والثغور، سواء في اسطنبول ولندن أو في الدوحة وباريس، وأنه قد "قطع الطريق على النهضة" كي لا تعود الى الدوحة ابدا. ففي زيارته الاخيرة الى هناك، ترك كل الوسطاء جانبا، وذهب مباشرة الى القصر الاميري، حيث نال التكليف الرسمي لقيادة حملة وينو البترول في تونس وحملة لا تعدموا مرسي في باريس، ولم يضيّع وقتا كثيرا، فقد باشر منذ اليوم الاول لعودته، اطلاق الحملتين وهو يحرز فيهما تقدّما أربك حركة النهضة وأقضّ مضجع الغنوشي شخصيا، ما دفعه الى الاستنجاد بمريديه في الجنوب فلم يحضر منهم الا النزر القليل، والى الاستنجاد بالقدماء والمؤسسين من الرعيل الاول في ذكرى الحركة، فلم يحضر منهم أحد تقريبا، باستثنائه هو، حتى مورو غاب عن الحفل وكأنه لا يعنيه.
ويعلم الغنوشي أيضا أن الوضع الدولي ليس في صالحه، فالباجي يحقق تقدما في واشنطن وبرلين، في حين أغلقت باريس ولندن بابيهما في وجه الشيخ، وغرقت اسطمبول في دموع الخيبة العثمانية، وأدارت طرابلس ظهرها عنه وغرقت في صراعات الدواعش، ويمّمت الرياض وجهها شطر اليمن متجاهلة لكل الاطراف.
ومصارعة المرزوقي بأجنحة دولية متكسّرة، وقاعدة داخلية مهتزّة ومخلخلة، لن يجدي نفعا، خاصة وأن الرجل جاد في مساعيه للاستيلاء على كل مواقع النهضة في الداخل وروافدها في الخارج، وهو يتقن اثارة القلاقل، وليس ورائه ما يخسره، فهل يقدر الغنوشي أن يواجهه بمؤتمر للحركة يعيد لها قوتها وصلابتها في مواجهة هذا الخطر المحدق؟
الاجابة بالتأكيد لم تكن في صالح النهضة، ولا أدل على ذلك من انطلاق التصريحات من قيادات الحركة خلال الاسبوعين الاخيرين حول ضرورة تأجيل المؤتمر، أو بالاحرى ترحيل الانفجار الذي يهدد الحركة في بقائها ووحدتها، الى وقت لاحق، قد تكون التأمت فيه الجراح، وصفت بعض القلوب، أو تغيّرت الاحوال، وتبدّلت الظروف.
فالغنوشي الذي، ظاهريا على الاقل، ألقى بكلّ بيضه في سلّة الحُكم، واندفع بكل قوّته وراء نداء تونس وحكومة الصيد، بدأ يفقد خطّ الرّجعة، ولم يعد قادرا على ارضاء الاصوات الراديكالية داخل أسوار مونبليزير، التي طالما اعتبرت حربها مع نداء تونس حرب وجود، وحربا مقدّسة ضدّ الازلام والفلول والعلمانيين ورموز الفساد وغيرها من الشعارات التي ترسّخت، وساهم الغنوشي نفسه كثيرا في ترسيخها، داخل الغالبية العظمى من المكوّن النهضاوي والاسلامي عموما.
كما أن الغنوشي يعرف جيدا ان هناك حراكا كبيرا يمور داخل الحركة، ولن يهدأ الا بمؤتمر يقلب فيه كل الاوضاع ويصحّح كل المفاهيم، وقد يكون الغنوشي هو من يدفع ثمن هذا التصحيح.
ولان الغنوشي رجل سياسة بامتياز، ويتقن جيدا لعبة موازين القوى والمرور بين المتناقضات، فهو يعرف جيدا الان ان مسار الحركة داخليا ليس في صالحه، وأن الشرخ الذي حدث منذ سقوط المرزوقي ودخول النهضة الى حكومة الصيد، قد يطيح برأسه من على هرم السلطة في الحركة، أو قد يضعف تياره، ويسلّم مقاليد الامور الى قيادة جديدة قد تعصف بكل ما رسمه الغنوشي طيلة أكثر من نصف قرن، وتعيد خلط الاوراق من جديد، وقد تفسد كل حسابات الحركة وطنيا واقليميا ودوليا، كما قد تعيد رسم ملامح جديدة في المشهد الاسلامي كلّه.
وحتى لو لم يكن المرزوقي هو المتسبب الرئيسي في تأجيل مؤتمر النهضة، فانه بلا شك اصبح صداعا مزمنا للشيخ راشد، وهو ما قد يدفع لبروز صراع جديد داخل محور كان الى الامس القريب متجانسا جدااااااا، ولن يستفيد بالطبع من هذا الصراع الا من رمى جزرة لأحدهما، وعصا للأخر، وبقي ينتظر.