كان جمهور المهرجان الدولي للموسيقى السمفونية بالجم، على موعد مساء يوم الثلاثاء 6 أوت 2019، مع أوبرا ديدون وإيني، العمل الأوركسترالي تهبّ نسائمه كرياح البحر الأبيض المتوسط الدافئة التي قادت ، في قلب تيسديريس القديمة، واحدة من أساطير المؤسسين لروما "ايني وديدون".
في الأمسية قبل الأخيرة من الدورة الرابعة والثلاثين، استضاف مسرح المهرجان الدولي للموسيقى السمفونية في الجم ، العرض الأول للأوبرا الوطنية التونسية بالتعاون مع المعهد الثقافي الإيطالي في تونس. الأوبرا الباروكية "Dido and Enneas" "ديدون وإيني". الأوبرا من تأليف موسيقي هنري بورسيل في عام 1689 ، ونص من تأليف ناحوم تيت ، يؤديها أوركسترا أوبرا تونس، تحت إشراف هشام عماري ، مع راقصي دار الأوبرا في تونس وباشراف كوريغرافي للكورغرافية لوكا بروني.
بعد ثلاث مائة وثلاثين عامًا على إنشائها ، كأول أوبرا باروكية باللغة الإنجليزية، بتراجيديا تونسية تختزل قصة ديدون وإيني "عليسة" المأساوية. وتحكي الأوبرا قصة آيني ، الذي خسر حربه وطرده الإغريق من تروي، ليلجأ إلى قرطاج التي كانت تحكمها "ديدون" (أليسا)، فيقعان في حب بعضهما البعض، لكن الآلهة لا توافق على هذا الحب العميق واتحاد القائدين في سبيله مما يدفع آيني إلى مغادرة قرطاج وتأسيس الإمبراطورية الرومانية.
أما ديدون التي هجرها حبيبها ، فقد قررت أن تضع حدا لحياتها ، وتترك شعبها وحيدا في مواجهة الانتقام الروماني. القصة ، مثلها مثل جميع الأوبرا الغنائية وقصص الحب ، تنتهي بشكل سيء مأساوي بعد ساعة واحدة و 3 أعمال. وحمل هذا العمل الأوبرالي مفاجآت منذ بدايته، برقصات كورغرافية حديثة ومتناغمة مع كل المحيط بها من مؤثرات سمعية وبصرية تزيدها جمالا الزخارف والألوان الزاهية والأزياء المرقّمة. أما الموسيقى فإنها تبدو وفية للباروك ، لكنها تكشف في نوتاتها موهبة العازفين المنفردين فابريس ألكساندر وروجر أليبرت وبليرتا زيجو ، وتكشف عن موهبة وقدرات خلاّقة لجوقة أوبرا تونس التي يقودها الشاب الموهوب هشام العماري.
في الفصل الأول من الأوبرا ، يولد الحب قويا وينتصر على الاختلافات المتعددة وواجب رئيس الدولة. وفي قرطاج، في قصر الملكة ، تخضع ديدون لصوت القلب ونصيحة بليندا وتوافق على الزواج من حبيبها ايني، ليختار الأخير في نهاية الفصل الثاني الحافل بالأحداث أن يستسلم لأصوات السحرة والسعاة الإلهيين وأن يعود إلى مصيره، الذي يحتم عليه تأسيس الإمبراطورية الرومانية. أما الفصل الثالث من هذه الاوبرا ، والذي تكثر فيه الحركات الراقصة بحيوية وعنف، فإنه يجسد مرحلة العقدة الاسطورية وبلوغ ديدون الموت بقرارها أن تنتحر ديدون ويعاني شعبها في مواجهة الامبراطورية الرومانية.
ويضل هذا العرض وفيا للروح الباروكية وسنواتها 330 ، لكنه يوظف توجيهات كل من هشام عماري ، وكوريغرافيا لوكا بروني ، وامكانات جوقة اوبرا تونس وموهبة عازفة البيانو الشابة نسرين زيمني، لتتجاوز الاوبرا الزمن وتتقاطع مع أركان المأساة الأسطورية التي تقوم على خطوط درامية تقود المسار الموسيقي للأوبرا وهي: العاطفة والحب والشعور بالواجب والتضحية. وتتخلل هذه الاوبرا لمسات الحداثة الفنية والمشاهد الكورغرافية التي تضفي للرواية الأسطورية بعدا فنيا تفاعليا، يكشف للجمهور وقع النغمة الموسيقية على سيرورة العمل بما تفرضه الحبكة الدرامية الروائية وما أسست له الموسيقى الباروكية في انتاجها لهذه الاوبرا منذ سنوات.
وقد أدت عروض الرقصات الحديثة والكلاسيكية والبهلوانية أيضًا إلى إضفاء مزيد من الجمال على الآداء الغنائي لجوقة أوبرا تونس.
كما أضفت أزياء ماميا بن يحيى والديكور الذي اختاره حسن سلامي (المركز الوطني لفنون العرائس) للعمل الاوبرالي، بعض البهجة والفكاهة على هذه المأساة الغنائية. ورغم قلة الحضور مقارنة بسهرات اوبرا لا تغوص في عمق التاريخ التونسي كاوبرا "ديدون وإيني" إلا أن هذه الأوبرا ، تضل أكثر من مجرد قصة حب مأساوية، بل تعكس توازنا محتملا في لعبة القوة والحب والرغبة الأبدية لدى الانسان.
وكان العرض الاول لاوبرا ديدون وايني في الفضاء التونسي الوحيد الخاص بالموسيقى السمفونية والكلاسيكية، عملا فنيا قويا وكبيرا رغم قصر مدته الزمنية، عمل أعجب الجمهور وصفق عليه لفترة طويلة، مما يشجّع أورسكترا أوبرا تونس على مزيد الابداع والانتاج والبحث في أساطير وتاريخ هذا البلد الزاخر بقصص وحكايات يمكن أن تكون أعمالا فنية ضخمة وشهيرة.