آراء

الثورة و رمزية التعبير السينمائي في تجربة 'مراد بن الشّيخ'

 أبرزت الممارسة السّينمائيّة التّونسيّة بعد الثّورة نوعاً من التلّاحم مع القضايا التي يطرحها الفكر السّوسيولوجي. وبيّنت كيفيّة تنوّع تعامل المخرج السينمائيّ مع المواضيع والقضايا التي يطرحها محيطه الاجتماعيّ، حتّى أنّ السينمائيّ يبدي في ممارسته نوعاً من الانشغال الكلّي بالمنظومة الاجتماعيّة. ويقوم بمراقبتها ليترجم أفعالها وأحداثها إلى لغة تشكّل ملامح تصوّراته الإبداعيّة. كما يتعامل في تعبيراته مع كل الظّواهر التي تطغى على مجتمعه على غرار الثّورات بتنوّعاتها الفكريّة والسياسيّة، إذ يعرف حسن حنفي المبدع المثقّف في قوله:"إنّه كلّ من تربّى لديه وعي ذاتيّ بالاتّجاهات العامّة في حضارته وإنّه القادر على أن يختار من بينها وأن يقف موقفا نقديّا منها" . 

في هذا المستوى من التّحولات الاجتماعيّة، لا تخلو عين الفنّان المبدع المراقبة للتّجاوزات الإنسانيّة التي تسجلها في نفس إبداعي، من الأبعاد النّقديّة. ولنا في ذلك العديد من النّماذج الفنيّة التي قامت بمراقبة حركات الثّورات الاجتماعيّة على غرار الثّورة الفرنسيّة التي تأسّست في مجملها على الفكر النّقديّ الذي صاغه المفكرون السّوسيولوجيّون كالمفكّر الفرنسي "جون جاك رسو" وعلى اللغة الشّعريّة كما هو الحال مع الشّاعر "لامرتين". وبذلك، لم يكن الفنّ السّينمائيّ بتونس بمنأًى عن مراقبة الثّورة الكرامة ونقد السّلطة القائمة ولا بعيدا عن تسجيل تجاوزاتها ونقل أحداث التّحولات الاجتماعيّة. ليكون المبدع السّينمائي المعاصر "مراد بن شيخ" أكثر التزاماً بقضايا محيطه وتحوّلاته. 
وهو ما يمكننا الوقوف عليه من خلال فيلمه الوثائقيّ المُعنون بـ"لا خوف بعد اليوم"، حيث يبرز كيفيّة سقوط النّظام الحاكم في تونس على إثر قيام الثّورة والإعلان عن تأسيس النّظام الجمهوري الّذي يحيل السّلطة إلى الشّعب. فهو عمل يبرز مدى احتفاء الفنّان السّينمائي المبدع بنجاح الخطاب الثّوري. كما يبرز ذاك الارتباط القائم بين السّينمائيّ وعالمه الاجتماعيّ ومدى التّكامل والتّرابط بين مستويين الفنّان–الإنسان من جانب، ومن جانب آخر الفنّان-المبدع. حيث عمل هذا الفيلم الذي تدوم مدته حوالي ساعة واثنتي عشرة دقيقة على تأريخ الحدث الثّوري ونقله إلى الأجيال القادمة حتي تقوم الصّورة السّينمائيّة مقام المؤرّخ للفعل الثّوري والتّحول الاجتماعيّ.
وذلك تمّ من خلال رصده للثّورة التّونسيّة منذ بداياتها، الثّورة التي كانت محلّ اهتمام العالم. ويعرض الفيلم ثلاث شهادات لشخصيّات تونسيّة سياسيّة وناشطة في المجتمع المدني معارضة لحكم بن علي. عاشت هذه الشخصيات الثّورة التّونسيّة بكافة مراحلها منذ اندلاع شرارتها الأولى في منطقة سيدي بوزيد. وكانت "راضية النصراوي" الشّخصيّة الأولى وهي حقوقية ومعارضة للنظام السابق. وكانت الشّهادة الثانية للمدونة التونسيّة "لينا مهني". ومثّل الصّحفي المعارض "كارم الشريف" الشهادة الثالثة خلال هذا الفيلم. 
صورت الشهادات الثلاث بعمق معاناة التونسيين في حياتهم اليوميّة تحت وطأة نظام قمعي لفترة تجاوزت ثلاثة وعشرين سنة. وهي تمثّل إجابات مضمنة عن أسباب اندلاع ثورة الياسمين. كان فيلم "مراد بن شيخ" عبارة عن إجابة عن السؤال التالي:
لماذا أصرّ الشّعب التّونسي على الإطاحة بالعهد البائد ورحيل الدكتاتور؟
وتعتبر تجربة "مراد بن شيخ" من خلال هذا الفيلم الوثائقي تجربة ثريّة ومتنوعة بتنّوع التناولات التي تتبناها، خاصة مادته السمعيّة البصرية المتمثلة في تسجيل حقيقي لشهادات حيّة كشفت وعرّت عن معاناة التونسيين من الأساليب القمعيّة لنظام بوليسي طامس للحريات الفرديّة.
اعتمد "بن شيخ" في فيلمه على نفس ثوري يبطن رؤية نقديّة يدركها المشاهد في لقائه الأول مع فيلمه من خلال طريقة اختياره لعنوان هذا الفيلم "لا خوف بعد اليوم". وهذا الأخير هو عنوان لفيلم أخرجه "بن شيخ" في سياق أسباب اندلاع الثّورة التونسيّة وتحليله للرّواسب الإيديولوجيّة التي أفرزتها.
"لا خوف بعد اليوم" كلمات لها دلالات رمزيّة حيث أنّ معنى الخوف لا يتجسّد في الشّخصيات التي ترصدها كاميرا "مراد بن الشيخ" باعتبارها حطّمت جدار الخوف قبل "رحيل الدكتاتور"، فـ"راضية النصراوي" المحامية والمناضلة السياسيّة ورئيسة الجمعيّة التّونسيّة لمقاومة التعذيب تحدّثت طوال الفيلم عن قسوة النظام البوليسي الذي سلط ضدها كل أشكال القمع والتسلط ولكنها ظلت صامدة. وروت في ما ذكرته الحادثة المتمثلة في سرقة مكتبها والتي أدت بها إلى ملازمة فراش المرض، فكانت ردت فعلها الفرح والمرح من خلال قضاء ليلتها ترقص في حفل زفاف ابن إحدى صديقاتها. وتحدّثت عن حادثة العبث بمحرك سيارتها الشّخصيّة من طرف "بوليس بن علي"، تتحدث مبتسمة، وتقول إنّ تفقدها اليوميّ لسيارتها كان بدافع الحذر وليس بدافع الخوف.
مثّلت "لينا بن مهني" الشّخصيّة الثانية في فيلم "لا خوف بعد اليوم" وهي مدونة للوقائع والأحداث الثوريّة، حيث لم يبدُ عليها الخوف وهي تتحدث عن متابعة البوليس السياسي لها كما تتبعتها الكاميرا في زيارتها لولاية سيدي بوزيد وتحديدا مدينة الرقاب التي سقط فيها أول شهيد للثّورة. تتابعها الكاميرا أثناء مواكباتها لاعتصام القصبة الأوّل وأثناء كل تحرك في الشارع التونسي ومواكبتها لجميع الأحداث والوقائع سواء قبل الثّورة أو بعدها.
لقد تمكن مراد بن شيخ في عمله الوثائقي  «لا خوف بعد اليوم» من تسجيل  ذوبان حاجز الخوف لدى الشّعب التّونسي والإطاحة بنظام قمعي عبر كاميراته أيضا عبر مقاطع  من تصوير الهواة توثق أحداث الثّورة بكل تفاصيلها وجزئياتها، مما ساهم في ولادة مناخ جديد من الحرية. لذلك عمل السينمائي التونسي "مراد بن شيخ" على جمع شخصيّات نضاليّة في هذا العمل اعتبرها دلالة رمزيّة حيث أنها دفعت الكثير مقابل الدفاع عن الحريّات.
وقد نجح فيلم "لا خوف بعد اليوم" في فتح آفاق جديدة نحو مناخ من الحريّات العامّة والانعتاق بعد حالة من الهوان وعجز الإرادة وحالة الشّلل والعجز السّياسيّ التي عرفتها البلاد. تحقّق ذلك بعد نزول الشّعب للشارع لافتكاك حرّيته دون خوف من الموت أو من آلة القمع العنيفة التي كانت مدعومة من السلط الرّسميّة. ولعلّ هذا ما يفسّر جمع المخرج "مراد بن شيخ" بين وجوه نضاليّة مختلفة وذات رمزيّة عُرفت بدفاعها الكبير عن الحريّات العامّة والفرديّة أيام دفع الثمن. والفيلم أيضا رسالة تقول بأنّ إرادة الشّعب قادرة على إسقاط منظومة الاستبداد. لقد استطاع السّينمائي "مراد بن شيخ" بطريقة احترافيّة أن يروي موضوع فيلمه وتفاصيل الأحداث التي صاحبت سقوط نظام بن علي وأن ويوثّق لها على ألسنة الشّخصيات الرئيسيّة التي تحدّثت في الفيلم دون اللّجوء إلى التّعليق الصّوتي من خارج الصّورة بجعل تلك الشّخصيّات تسترجع وقائع الأحداث ودعمها بلقطات وثائقيّة مثيرة، بعضها من تصوير الهواة أثناء مواكبتهم الأحداث. ويغلب على تلك اللّقطات أحيانا طابع العنف. وتغوص الكاميرا داخل الأحداث وفي تفاصيلها ومع الجماهير توثيقاً للّحظة التّاريخيّة. وأحيانا أخرى بتصوير مباشر للشّخصيّات داخل الحدث كما هو مثلا في مشهد مصوّر مع الحقوقية "راضية النصراوي" وهي تقود سيارتها فتجد نفسها وسط مظاهرة حاشدة يشير إليها بعض الرّجال ممّن تعرف بأن تلتحق بهم وتلّوح هي بيدها من داخل السّيارة. 
وتستمر في الحديث إلى الكاميرا، شخصيّة سياسيّة مخضرمة تحلّل وتناقش وتسخر وتضحك وتروي، استطاعت أن تنتصر باكرا على الخوف قبل الثّورة. 
يقول "بن شيخ": "اليوم ينتصب العلم التونسي في غرفة المعيشة في بيتي، وقد أصبح للنّشيد الوطني عندي معنى مختلف تماما، فقد أصبح يعني الحرّيّة. لقد أصبحت أخيرا مواطناً. 
وأصبح باستطاعتي التّعبير عن نفسي وعن انتمائي الوطني بحريّة. إنّني مخرج سينمائي مسؤول بالكامل عمّا أفعله. إنّ الخوف الذي أصوّره في فيلمي كان أيضا يسيطر عليّ كما كان يسيطر على التّونسيّين جميعاً. واليوم أصبحت الشّجاعة التي تظهر في هذا الفيلم عند التّونسيّين جميعاً" .
لقد مثّلت الثّورة التّونسيّة فتحاً تاريخيّاً في مجال السّينما الوثائقيّة التّونسيّة، ممّا يتيح لها فرصة لتلمّس طريقها وفتح الآفاق أمام تأسيس سينما وثائقيّة جديدة بجماليّات متفرّدة يغذّيها مناخ حريّة التّعبير بعد التّحرر من قيود الاستبداد. ن
نجد أنفسنا اليوم أمام سينما جديدة ترسم جانبا كبيرا من حريّة التّعبير التي كانت مهدورة إلى زمن قريب حتّى خلناها حلماً ميتافيزيقياً.
 
مقال علمي للاستاذ و الباحث صالح بنحميد