تشهد المهرجانات الدولية في تونس، وعلى رأسها مهرجان الحمامات الدولي، ظاهرة آخذة في التفاقم تتعلّق بانتشار السوق السوداء لتذاكر العروض الفنية، حيث يجد جمهور واسع نفسه مُقصى من فعاليات تقام في مدنهم ويفترض أن تكون مفتوحة ومتاحة للجميع، لتتحول تدريجيًا إلى فضاءات مغلقة لا يمكن الولوج إليها إلا لمن يمتلك إمكانيات مادية مرتفعة أو وسائل دفع إلكترونية لا تتوفّر بالضرورة لجميع المواطنين.
ويُعزى هذا الإقصاء المتزايد، في جزء كبير منه، إلى اعتماد نظام بيع إلكتروني للتذاكر، يُروَّج له على أنه حل عصري وشفاف، لكنه في الواقع يُقصي شريحة واسعة من التونسيين الذين لا يملكون بطاقات بنكية أو لا يجيدون التعامل مع المنصات الرقمية، فيُتركون خارج دائرة الاستفادة من العروض الثقافية، مما يدفعهم، في كثير من الأحيان، إلى اللجوء إلى وسطاء يعيدون بيع التذاكر في السوق السوداء بأسعار خيالية، تفوق في بعض الأحيان السعر الأصلي بأضعاف.
ويُعتبر مهرجان الحمامات الدولي مثالًا بارزًا على هذه الإشكالية، إذ تشهد تذاكر عروضه نفادًا سريعًا منذ الدقائق الأولى لطرحها على المنصة الإلكترونية، ما يفتح الباب واسعًا أمام المضاربة والاحتكار من قبل أطراف تستغل محدودية العرض وغياب البدائل لفرض منطق السوق الموازية، وهو ما يُحوّل فعالية ثقافية وطنية إلى مناسبة محصورة في فئة اجتماعية محددة قادرة على دفع السعر الأعلى، في ضرب صارخ لمبدأ العدالة الثقافية والمساواة في النفاذ إلى الأنشطة الفنية.
إن هذه الممارسات لا تقتصر فقط على التأثير على جمهور العروض، بل تُلحق ضررًا مباشرًا بصورة المهرجانات وصدقيتها، إذ تُكرّس شعورًا متزايدًا لدى المواطن بعدم الإنصاف، وتُضعف ثقته في الجهات المنظمة، التي تبدو عاجزة، أو ربما غير مبالية، بمعالجة هذا الخلل البنيوي في منظومة بيع التذاكر وتنظيم الدخول.
وللتصدي لهذا الوضع الذي يمس بجوهر العمل الثقافي، يصبح من الضروري العمل على تنويع قنوات بيع التذاكر لتشمل إلى جانب البيع الإلكتروني، صيغًا ميدانية تعتمد الدفع النقدي وتسمح لجميع فئات الجمهور بالاقتناء المباشر، مع فرض رقابة صارمة على الكميات المسموح شراؤها للفرد الواحد، إلى جانب تفعيل آليات قانونية لمتابعة السوق السوداء وردع المتلاعبين بها، فضلاً عن إطلاق حملات تحسيسية تُسهم في التوعية بأضرار هذه الظاهرة على المشهد الثقافي الوطني برمّته.
ويبقى التحدي الحقيقي أمام المهرجانات الدولية في تونس، ليس فقط في تقديم عروض فنية ذات جودة عالية، بل في ضمان أن تصل هذه العروض إلى جمهورها الحقيقي، بشكل عادل وشفاف، يحفظ الطابع العمومي والثقافي لهذه التظاهرات، ويصونها من التحول إلى امتياز طبقي لا يستفيد منه إلا من يملك الوسائل التقنية والمالية للوصول.